البهنسا.. تقلب موازين التاريخ الإسلامي
قرية صغيرة تتبع مركز بني مزار بمحافظة المنيا.. هي "البهنسا"، وفي الصعيد يطلقون عليها "البهنسا الغراء"، وفي هذا ما يشي بروحانية وتقديس، والمكان يستحق كل تقدير واحترام. هناك تشم رائحة الجهاد الإسلامي من أجل إعلاء كلمة الحق، ورفعة شأن الإسلام.
بالفعل، هذه القرية التي تستأثر بكل ملامح العبقرية المصرية، تثبت أن المسلمين لم يكونوا غزاة أبدًا.. فالغازي يحطم ويدمر، ويكتسح كل ما يقف في طريقه، حتى لو كان أرقى الحضارات الإنسانية. في البهنسا، تجد ملامح حضارات الأرض؛ فرعونية، وقبطية، وإسلامية، ورومانية.. مظاهرها سليمة، لم تكد تمس، تحيا جنبًا إلى جنب، لا يطغى أحدها على الآخر، فلقد حرسها جنود الإسلام المتحضرون.
قصص البطولات تكتمل بحكايات بطولة الصحابية خولة بنت الأزور، شقيقة الصحابي ضرار بن الأزور، الذي أطلق عليه الرومان لقب “الشيطان عاري الصدر”.. خولة قاتلت، وهي تلبس ملابس الرجال، وتضع لثامًا على وجهها، وشاركت في تحرير أخيها من ربقة الأسر.. ولا أدري سر تجاهل تلك القصص العظيمة، والتعتيم على معارك البهنسا!
المعركة الرهيبة امتدت لشهور، كما تقول كتب التاريخ، وكانت حامية الوطيس، فالحامية الرومية تمتلك من السلاح والعتاد، والحصون والقلاع والأبراج ما لم ير المسلمون مثله من ذي قبل.. ولعل أقل ذلك امتلاكهم لعدد هائل من الأفيال، ربما وصل إلى نحو 1600 فيل.. كان يمتطي الرماة ظهورها، ليمطروا العرب بالرماح والسهام.. ومن ثمَّ كانت إصابة الأعين كثيرة جدًّا.. ويكاد الفاتحون العرب لم يعرفوا مثل هذا العدد من الشهداء قبل تلك الوقعة.
معارك البهنسا
في معارك البهنسا اليومية، كان الأبطال يرجعون بإصابات جديدة، وجراحات عميقة، وفي محاولة لوقف النزيف كانوا يتمرغون في تراب ورمال تلك البقعة، التي بوركت بدماء صحابة شرفوا برؤية أشرف الخلق، صلى الله عليه وآله وسلم.. ولذا سمي المكان بـ "المراغة".. لكن الاسم اختفى بمرور الزمن.
بطولات الصحابة والتابعين، تستحق أن تروى، ولا أدري لماذا تجاهلتها كتب التاريخ الإسلامي، فلم يكد يهتم بها سوى القليل من المؤرخين، وفي المقدمة منهم؛ الواقدي.. ومع ذلك فإن كتابًا نسب إليه زيفًا اكتظ بالأغاليط، والأخطاء التاريخية الفجَّة، ويبدو أن من ألَّفه لم يقرأ تاريخ الصحابة، والفتوحات الإسلامية، فخلط بين الكثير من الوقائع، وأورد أسماء كل من تذكرهم من كبار الصحابة، مثل: خالد بن الوليد، الذي نسب إليه قيادة الجيش رغم أنه تقاعد بعد أن عزله عمر بن الخطاب، وأبي ذر الغفاري، وأبي هريرة، والزبير بن العوام، والمعروف أن عمر كان يرفض الزج بكبار الصحابة في جيوش الفتح، ليستعين بآرائهم، في إدارة شئون الدولة.
الثابت أن المدينة تحتوى على قبور عدد من الصحابة والتابعين ومنهم ضريح خولة بنت الأزور، وأعتقد أن إعادة كتابة فتوحات البهنسا ستسفر عن إعادة النظر في كثير من وقائع وأحداث التاريخ الإسلامي.