دور البطولة
كصبية تعيد هندمة فستانها الذي حسرته الرياح عن ساقيها، سحبت بصري سريعا حين التقت أعيننا، عبر زجاج نافذة الميكروباص، الذي كان يعكس صورتينا. لحظة واحدة كانت كافية لإشعال ذاكرة خاملة منذ عقود. ذاكرة بدت كمرآة استعادت لمعانها للتو، حين مُسح عنها الغبار. ربما لا أتذكر على وجه التحديد من تلك المرأة، التي تجلس إلى جوار السائق، وتفصل بينها وبينه حقيبة يدها.. ربما، لكن الأكيد أنني أعرفها جيدا، فعيناها –رغم انطفائهما– تعكسان شيئا مألوفا.
أغمضت عيني لحظات، ووضعت الهاندفري في آذني دون أن تكون هناك أغنية مشغلة في الموبايل.. وكأنني بذلك أريد أن أعطل جميع حواسي، حتى تتمكن ذاكرتي من الاستفادة بكل طاقتي، لتستعيد عافيتها. خمس ثوان فقط كانت كافية لأن أتذكر سلمى.. زميلتي في الجامعة. إنها هي من تجلس إلى جوار السائق. مر الزمن وتبدلت ملامحها، لكن عيناها مازالتا تتمتعان بالألق ذاته، حتى وإن كانتا مشوبتان بالحزن.
عشرون عاما مضت، منذ تخرجنا في كلية الآداب. تغير شكل سلمى، باتت أنحف مما كانت عليه حينذاك. شعرها أقصر، ومصبوغ بغير لونه الأصلي. لم يعد جلها مشدودا. خداها فقدا نضارتهما. والتجاعيد تموج جبينها. لكن عيناها.. عيناها مازالتا على حالهما منذ آخر مرة رأيتها فيها. يبدو أن الإنسان يكبر، لكن عيناها تظلان محتفظتان بطفولتهما أبدا!
ذكريات الجامعة
أربع سنوات كاملة جمعتني وسلمى. زميلان في مدرج واحد، لكن كلمة واحدة لم تخرج من فمي طيلة السنوات الأربع، رغم أن صدري كان كأنبوبة أكسجين معبأة بالكلام. المرة الأولى التي رأيت فيها سلمى، حين كانت تقف أمام شباك شئون الطلبة.. صبية بهية كضوء القمر، حادة كشعاع الشمس، ممشوقة كسيف، وعيناها تضحكان.
أنا القادم من الريف، أقف تائها وكأنني في حضرة واحدة من آلهة الرومان.. العالم بدا لي كلوحة ساكنة، لا حياة فيه إلا سلمى. فكرت في أن اقترب منها، أحادثها في أي شيء، لكن ذلك لم يحدث.. فقد تسمرت في مكاني كشجرة بلوط عمرها مئة عام.
كثيرة هي المرات التي جمعتني وسلمى، وكثيرة هي الفرص التي سنحت لأبادلها الحدث، لكن كلمة واحدة لم تتجاوز شفتي. في الكافيتيريا، ومبنى الكلية، وبوابات الدخول، وشباك تذاكر المترو.. أماكن عديدة وفرت لي الفرصة، لكن في كل مرة كنت أتقمص دور الصياد الغشيم، المتخصص في إهدار الفرص السانحة، فأؤديه ببراعة هوليوودية.
حتى المناسبات الاجتماعية الخاصة بزملائنا المشتركين، جمعتني وسلمى غير مرة، ومع ذلك تمكنت –بمهارة– من إخفاء مشاعري، وكأنني ساحر لا يستعصى عليه إخفاء الهرم الأكبر بين أصابعه. ولأنني كأي بطل شرقي، قررت ألا أخيب أمل الجمهور.. الآن سيحدث «التويست» في شخصيتي. الآن سأنادي على سلمى بصوت عال – غير مهتم للحشود.
سأناديها حبيبتي، وأبوح لها بأسراري. سوف أندفع إليها. احتضنها. أقبلها. لأمنح الجماهير فرصة للتصفيق والصفير. الآن فقط، سأظهر جانبي الخفي، ذلك الجزء الحقيقي مني، الذي عاش في الظل لعقود. لن أفكر في ما سوف يحدث. كيف ستستقبل سلمى حضني وقبلتي؟ كيف يستعاطى الجمهور مع المشهد، وهم يرون رجلا يحتضن امرأة علانية؟
كثير من الأسئلة والخيالات والتخيلات، لكن شيئا لن يمنعني هذه المرة.. فالآن إما البطولة، أو أعيش كومبارس للأبد. توقفت السيارة، وهمت سلمى بالنزول، فاندفعت أنا أيضا، وطلبت –بلهجة آمرة– من الركاب أن يفسحوا الطريق، حتى ألحق بها. حين خرجت من السيارة، كانت سلمى تقف على الباب المواجه للسائق، ويبدو أنها تحاول أخذ حقيبة يدها التي كانت تضعها إلى جوارها.. لكن.
لم تكن الحقيبة، إذ أنزلت سلمى طفلا، وتمتمت بصوت خفيض: «يلا يا علي هنتأخر على بابا». مضت سلمى ويدها مشبوكة في يد صغيرها. ومضى الميكروباص. فيما بقيت أنا في منتصف الطريق.