بلد بلا رموز
للأسف، يبدو أن تشويه الرموز بات لدى الأغلبية العظمى من المصريين بمثابة عقيدة، باتوا يمارسونها بمهارة وتلذذ وحرفية، لدرجة أننا لم نبق على رمز مصرى واحد على مر التاريخ إلا وأطلقنا عليه سهام الهدم والطمس والتشويه، في هواية لم يسبقنا إليها شعب على وجه الأرض.
فخلال الأيام القليلة الماضية شهدت القاهرة سقطتين وقع فيهما مصريون من المفترض ينتمون إلى كل ما هو مصرى، غير أن ما حدث كان على النقيض من ذلك تماما، حيث قام شاعر مصرى دون داع بشن هجوم شرس يحوى سبا وتشويها لعرض وسيرة وفن كوكب الشرق أم كلثوم، وذلك خلال فعاليات ندوة عقدت وللأسف بداخل مقر اتحاد الكتاب الذى أحد معاقل الثقافة فى مصر.
أما الواقعة الثانية فكانت فور إنتهاء المباراة النهائية لدورى أبطال أوروبا، حيث انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو مقزز، بثه البعض لمئات من المصريين تجمعون أمام شاشة عرض ضخمة داخل أحد كافيهات القاهرة، وهم يهتفون فى صوت واحد بعبارات مسيئة للغاية للنجم المصرى محمد صلاح، الذى يعتبره العالم فى الوقت الحاضر بمثابة رمز رياضيا مصريا وعالميا، بعد ما حققه من انجازات فاق مردوها الدعائى لمصر عمل كل سفاراتنا فى العالم على مدار سنوات.
ولعل ما يدعو للعجب أن يحدث هذا لكوكب الشرق أم كلثوم ومحمد صلاح في قلب القاهرة، في الوقت الذى ينظر فيه العالم لسيدة الغناء العربى على إعتبار إنها هرم مصر الرابع، تقدير لما قدمته من ثراث فنى نادر، وينظرون إلى محمد صلاح باعتبارة أحد أساطير كرة القدم العالمية، وفى ذات التوقيت صادف فيه الاستقبال الحافل من شعب ورئيس كوريا الجنوبية للاعب الكورى "سون" نجم توتنهام، ومنحه رئيسها وسام الاستحقاق، لمجرد تقاسمه فقط مع محمد صلاح لقب هداف الدورى الانجليزي، الذى حصده نجمنا المصرى للمرة الثالثة، بل وأضاف إليه هذا العام جائزتى أفضل صانع ألعاب ولاعب العام في إنجلترا.
تشويه الرموز
المؤسف أن هذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التى نسيىء فيها لرموزنا، فقد سبق لنا الطعن في سيرة المئات من رموز الدين والعلم السياسة والفن والإعلام، لدرجة إنه لم يسلم رمز مصرى على مر التاريخ من سهام الهدم والطمس والتشويه، وبأيادى مصرية بحجة حرية الرأي.
المحزن أنه بالعودة إلى التاريخ سنكتشف أن عقيدة تشوية الرموز راسخة وثابتة لدينا منذ الآلاف السنين، حيث يظهر ذلك جليا في كثيرا من النقوش الفرعونية، حيث عمد الحكام لطمس كل إنجازات الحكام السابقين، وهو نهج سرنا عليه للأسف وأتقناه وأبدعنا فيه، حتى حولنا رموزنا إلى خونة وعملاء ولصوص ومنحرفين وافاقين ومشعوزين، على العكس تماما مما تقوم به كل دول العالم من تكريم لسيرة وتاريخ وانجازات الرموز، وتقديمهم كقدوة للأجيال الجديدة.
ولعل ما يدعو للعجب، أن سهام الإساءة للرموز غالبا ما تخرج عن مثقفين وساسة يدركون جيدا معنى الكلمة، غير أن الثابت أن أغلبهم وللأسف يسيرون بمبدأ خالف تعرف طمعا في شو إعلامي على حساب سمعة عظماء أثروا الحياة بإنجازات تجعلنا نفخر بهم ونخلدهم على مر العصور.
لقد قص لى الفريق فؤاد عزيز غالى أحد رجال العسكرية المصرية الأفذاذ، وقائد الفرقة 18 مشاة التابعة للجيش الثانى الميدانى خلال حرب أكتوبر -رحمه الله- رواية، منذ أكثر من 40 عاما، كنت قد عرضت تفاصيلها فى مقال سابق، غير أننى أعيد نشرها لنتعلم كيف تقدر الدول رموزها، وتظهرهم في أبهى صورة.
فقد روى لى الفريق فؤاد عزيز غالى رحمه الله، انه عندما أرسله الرئيس السادات إلى تل أبيب ضمن وفد للتمهيد لمحادثات السلام عام 1977، أقام الإسرائيليون لهم حفل استقبال ضخم، نقله التليفزيون الإسرائيلي على الهواء مباشرة، وفوجئ الوفد المصرى في بداية الحفل أنه قد اصطف أمامهم مجموعة من الرجال تعدت أعمارهم جميعا الستين والسبعين عاما، وإذا بهم يبدأون في تقديمهم للوفد واحدا تلو الآخر، أمام كاميرات التليفزيون التي كان يتابعها كل الإسرائيليين على الهواء مباشرة نظرا لأهمية الحدث.
ويقول الفريق فؤاد عزيز غالى رحمه الله: لقد بدأ وزير الدفاع الإسرائيلى في تقديم هؤلاء الرجال لنا قائلا: "هذا هو القائد فلان الذي قام بالعملية الفلانية ضدكم في حرب 56، وهذا القائد فلان الذي قام بعملية كذا ضدكم في حرب 67، وهذا فلان، وهذا فلان، إلى أن انتهى من تقديمهم جميعا، ثم قال: هؤلاء هم كل القادة الذين مازالوا على قيد الحياة من القيادات العسكرية الإسرائيلية التي خاضت حروب ضدكم، ولم يتخلف منهم سوى القائد فلان الذي يرقد الآن بالمستشفى مريضا، ونستأذنكم أن نقوم جميعا بزيارته في المستشفى غدًا".
وتساءل الفريق فؤاد عزيز غالى -رحمه الله- قائلًا: "انظر كيف يقدرون قادتهم ورموزهم أمام الأجيال الجديدة، وانظر كيف سيكون واقع مثل هذا التكريم على الشباب والأطفال؟".
للاسف هكذا يتعامل العالم مع رموزة ويقدمهم لأبنائه، وهكذا نفعل نحن برموزنا أمام الله والتاريخ الأجيال الجديدة، حتى بتنا وكأننا بلد بلا رموز.. وكفى.