جزيرة غمام بين الرواية والدراما والمجتمع
في مجتمع قريتي بدلتا مصر منذ أربعين عاما كان يقطن بجوار الدار شيخ من الصوفية كل ما أتذكره عنه. مجرد غرفة مظلمة، ولا أراه إلا نادرا. وفي المواسم كانت تعج الساحة أمام الدار بالمريدين في وصلة تفقير وتكبير فوق الحصير متلمسين المدد متباركين بالشيخ، وفي الصباح لا أرى لهم أثرا لا في العمل ولا في المسجد المجاور سوى جلوسهم مع الكسل والتواكل منعزلين يتقبلون الصدقات والعطايا والقوت.
وكان في جرن تلك القرية مقام سيدي أحمد أبو مسافر وكان الشيخ الجار مجاور لمدد أبو مسافر ولكني لم أعرف ولم أسمع ولم أره يوما مسافرا إلى أن توفاه الله، والورثة من أحفاده الآن حولوا غرفته الطينية إلى بيت متعدد الطوابق الخراسانية في الطابق الأول مكان خلوة الشيخ المظلمة أصبح مقهى تقليديا يرتاده رواد البطالة والفلس من دراويش القرية الجدد!
الصوفية والتشدد الدينى
وننطلق من الواقع الذي عايشته إلى واقع حالة التصوف التي يروج لها الإعلام من خلال الدراما المصرية ويقدمها كبديل للعنف الطائفي والإرهاب المتأسلم، فضلا عن تقديم أصحاب التنوير والعلمنة الصوفية كأحد أهم البدائل الدينية التي ترتقي بالمجتمع وكذلك الحال مع بعض الأصوات العالمية التي تفرض قبضتها بالتغيير في منظومة الأديان الشرق أوسطية وفي المنطقة العربية تحديدا لمصطلح الديانة الإبراهيمية متخذين صورة الشيخ ابن عربي فرضية بديلة للتشدد الديني حيث القلب الذي يقبل كل الأديان في ميوعة غير منطقية.
بلا قانون وأسس تشمل الجميع للحياة تحت مظلته فالأجواء والجموع العربية مهيئة بفطرتها للميوعة الدينية وإتباع الهوى، وذلك راجع للكبت السياسي والجنسي والقبضة الديكتاتورية على صعيد السلطة والأسرة، وبالتالي فالمنفذ والمتنفس لتسريب هذا الكبت يخرج في المسار الديني فتراه متشدد متبع العنف. ومن ثم الإرهاب الديني ليمارس دور الديكتاتور الديني عوضا لدوره السياسي المقهور فيتسلط على زميله في الإنسانية..
لنرى قصص فتاوى الجهر بالإفطار في نهار رمضان أو الاعتداء بالتعنيف والضرب لفتاة من صيدلي داخل صيدليته، لأنها كاشفة متبرجة في نهار رمضان. وهذا واقع فج نراه عادة في صفحات الحوادث في المناسبات الدينية وغيرها، وهو نموذج صارخ على الفاشية الدينية النقلية والكبت والحرمان من كافة الحقوق الضائعة التي لم تحمِها قوانين الدولة التى تتركها لفتونة الأغلبية وللأعراف والصلح الجائر!
تطل الصوفية كتنفيس لممارسة دور المتسامح على غرار عبيط القرية يهب خده للصفع بلا أي مقاومة إتباعا لمبدأ المحبة المفتوحة والتسامح والتسامي وإن لا ذنب إلا ذنبه وما جاء الدنيا إلا ليتعذب وحده. يحب كل الناس. الأشرار والطيبين على سواء. يلتمس لهم الأعذار ويقبلهم على أية حال. وهذا يتم تأسيسه بمنهجية محترفة ناعمة تبث أفكارها وشخصيتها البراقة الجاذبة لتصعيد البديل المحتجب خلف معسول الحب الصوفي عوضا عن السلفية المتشددة، ويترجم ذلك عادة سردية النصوص الأدبية ومشاهد الدراما المصرية، فقد ساهمتا في تقديم هذا النموذج بشكل كبير.
جزيرة غمام
وعلى سبيل النموذج الدرامي تأتي جزيرة غمام للكاتب المصري المتميز كمال عبد الرحيم، التي تدور حول فكرة الانشغال غير محاسبة النفس التي أتعبت عرفات تلك الشخصية الصوفية التي تغزل فيها المشاهدون متناسين أنه صورة طبق الأصل من النقيض السلفي المتشدد في الانشغال بتكفير الآخر. صورة الصوفي عرفات وعوالمه المتداخلة مع حيوات الشخصيات حوله تعكس واقع مغيب عن الواقع المعاش فلا خلدون ولا الشيخ المنافس والكاره لعرفات هم أعداء عرفات بل سلوك عرفات هو عدوه.
فلا أحد يتخلى عن كل شيء، ولا يجب أن يدفن الناس السيئات. إنما يجب عليهم المحاسبة الدنيوية القائمة على العقل حتى لا يبرطع خلدون في المجتمع وحتى لا نقع في غواية العايقة ونقول إنه حب ونضل طريق العقل. ويجب الانتباه أن الحالة الصوفية هي حالة فردية غير متحققة للعامة يشوبها في بعض الحالات الشطح غير المنطقي، فأنت تخاطب ولي يعتقد أنه صاحب كرامات وأن الله سبحانه وجل في جعبته. فكيف تحاسبه أو تعاقبه إن تحكم. أقصد هنا النماذج الفاسدة من المتصوفة غير المتحققين.
أما على صعيد الصوفية الروائية التي قدمها الكاتب زكي سالم في مقام سيدي العريف، وهى متتالية صوفية شائكة فاقعة الدهشة من قبول وإتباع الشيخة المتصوفة التي خدعت الجميع في هيئتها الشكلية، ولم تكتشف إلا فوق خشبة الغسل عند وفاتها وتكفينها لتجد خادمتها وابنتها المختارة أن الشيخة رجل! وليس امرأة، فتصاب عينيها ويدها بالرعشة عندما لمست أثناء الغسل العضو الذكري، فتنده على الخادم وابن الشيخة بالتبنى ووريث عهدها ليكتشف الأمر، وما كان منهما إلا قبول الأمر وكتم سر الشيخة أو الشيخ.
فلا مقام العريف ولا جزيرة غمام ولا شيخ المجاور لأبي مسافر يؤسس فضاءات صوفية حقيقية ابنة واقعها وعصرها وزمنها لم يقدموا الصوفي المتعايش مع آليات زمنه بواقعية العقل المرتكز على الفكر والعصرنة الرافض لكل ما هو غريب وغير منطقي. التصوف في النماذج الثلاثة تقدمه السلطة التي تفضل هذا النوع من التصوف الذي يجعل المواطن متسامحا مع الأشرار في المطلق، وبالتالي مع الفسدة، لذلك لم يكن من فراغا حالة التعاطف العامة مع مبارك كرجل سلطة فاسد وإطلاق عبارات اعتبره أبوك يا أخي، أو له ما له وعليه ما عليه، وما علينا إلا التسامح والتنازل عن الحق الدنيوي في المحاسبة والقصاص من الفسدة والمفسدين.
النتيجة خلوة الشيخ أصبحت مقهى والشيخ عرفات ومشهده مع كبير المطاريد لن يحدث في الواقع ولا المناظرة المثالية بين الشيوخ الثالثة ستتم. كذلك الشيخة عطية كانت تختلى بالنساء في خلوتها مع إيحاء سردي بالممارسة الجنسية معهن ويتم تمرير هذا الخطأ الإنساني بلا محاسبة وتكفن وتدفن باعتبارها امرأة عارفة بالله ويقام لها مقاما وهي في الأساس رجل!
الصوفية والسلفية
الصوفية بهذه المفاهيم لن تكون بديلا للشرع والتحقق، عقلية الصوفية بلا منطق ففي بعض الأحوال يقولون بإسقاط التكليف عنهم وكأنهم معصومون فكيف تحاسب أو تناقش أو تختلف مع هؤلاء؟ مثلهم مثل إخوانهم من أهل الشرع أصحاب العقل النقلي فالاثنان منغلقان على ذواتهم لا يرون الآخر. الآخر عندهم لا يجادل ولا يناقش بل متبع وتابع ليس من أمره أمر، فهو إما كالميت بين يدي مغسله وإما يكون تابعا لشيخه في كل أفعاله ولا يسأله ولا يعترض على فعله ولو كان ظاهره حراما. وبالقطع في الحالتين لن ينتج لنا هذا مواطنا إنسانا سويا راشدا عاقلا قادرا على النقد والقبول والرفض إيمانًا بعقله هو لا بعقل شيخه.
هذه إرادة الله، الله غفور رحيم، ما كان وجودي في الدنيا إلا بأمر الله وخروجي بأمر الله. وبيني وبينكم الله.. الله من يحاسبني. بهذا الخطاب المتعشش في مفردات رجال الدولة المتشدقين به دائما. يؤسسه الطريقان الصوفي والسلفي والمجتمع ثالثهما، فعلى الشعب أن ينشغل بخطاياه والتلصص على الآخر والتدخل في شؤون الغير تحت دعوات كثيرة. هذا الانشغال أحط مراحل الإنسانية وتدنيها العقلي، فجعل المجرم يفلت من الحساب الدنيوي وجعل السلفي يكفر ويحلل دم المختلف معه دون مناقشة ولا محاسبة وجعل الصوفي يشطح في تصوراته فجعل من الخرافة بركة وأسرار عالية.
طريق الله لا يحتاج منك إلا عقل وقلب لديهم فكر سليم صوب البشرية والوجود.. فكر لا تشدد ولا شطح فيه. فكر بأنك موجود في الدنيا لتعرف وتتعارف وعندما يتم توضيح هذا المعنى فسوف تعرف جوهرة قيمة الله فيك وستعرف كيف الطريق إليه بلا وسطاء مجانين من شيوخ كاذبين يظنون أنهم وكلاء الله على الأرض يفتون للناس بالكراهية، وستعرف ما هو الطريق بلا أولياء مزيفين يظنون أنهم متصلون بالله وجها لوجه!
كل ما يغيب العقل فهو مفسدة وضلال للعامة. لا الصوفية ولا السلفية صالحان لعصرنا الحديث ومقتضيات أحواله التي تحتاج الى عقل واع تماما للحظة الحياتية، وإذا انحاز هذا العقل لتيار دون الآخر فقد ضل عن طريق الحضارة الإنسانية وشموليتها في التعايش السلمي القائم على إدراك الأمس واليوم والغد دون الانفصال عن المصلحة الحياتية لديمومة هذا الانسان ومعتقده بمعنى لا قداسة ولا تقديس لشيخ، لفكرة، لطريق مهما يكن، فالنقد والمقارنة هما هدف التحقق والشرع للارتقاء بعقل الإنسانية.
من ضروريات حياتنا العصرية الأقرب إلى لوحة التكنولوجيا أن نبتعد عن كل مغيبات العقل والروح وجلد وتعذيب وإجهاد البدن والضمير في طريق الإرهاب المتأسلم أو الحفظ المتأسلم أو في طريق الصوفية.
على المجتمع والدولة نخبة وسلطة إبقاء الصوفية كتجربة فردية ذات خصوصية لا تخرج عن اطارها الشخصي إلى العام، كذلك يجب عزل التشدد الشرعي وعزله وتقييد فكره الموضوعي وكل ما هو مفسد فيه عن العمومية ومنح العقل الإنساني حريته في مشروعه الجديد صوب بناء العقل المصري على أرضية العلم دون أية قيود.
وليس هذا دعوة لإنكار ما هو معلوم بالضرورة لكن نتفق ما هو المعلوم أولًا حتى يكون ضرورة لا خلاف فيه. ضميرنا المصري والعربي في شموليته بحاجة إلى عقل عاقل حر يقبل ويرفض ينتقد وينقض كما يريد لا كما يراد له.
إن الالتجاء إلى الصوفية ومن قبل السلفية كواقع أو بديل ومتخيل إبداعي يعكس مدى المحنة العقلية التي نعيشها الآن حيث لا بديل عقلاني يخرجنا من فتنة الولي وغلاظة الشيخ وميوعة رجل الدولة. فلا الصوفية تصلح لتكون البديل للسلفية ولا السلفية أساسا تصلح لحياتنا المعاصرة، وعلى الدولة وصناع الأدب والدراما الانتباه وتجديد وتمهيد عقول وأرواح الناس للعقل والقانون والعلم.