سردية أوراق التوت
البحث في ماهية الأحداث المجتمعية وتأريخيها روائيا يجعل من النص الروائي وثيقة إنسانية مغلفة بحسن الإبداع وكلما تمكن المبدع من أدوات فنه جعل نصه وثيقة اجتماعية ترصد مآلات الناس وأحوالهم في المجتمع دون سفسطة فلسفية. وعلى ضوء ذلك فالنص الروائي بالضرورة يتمتع بآلية التغيير والحركة، ويتلامس بتغيره تغير الإنسان الذي يحوم حول حكايته.
هذا التلامس بالضرورة أيضا يتلصص بشكل كاشف لعورة مجتمع وبيئة هذا الإنسان، ومن هذا التلامس أبدع النص الروائي في عذارى أوراق التوت للمبدعة المصرية سعدية عبد الحليم المخلصة لفن السردية النحاتة للوجوه الضائعة من بشر عاشوا على شواطئ البحر المالح وعلى ضفاف النيل الحزين. حيث يدور الاستفهام في فضائية المكان المجتزأ في نطاق شجرة التوت وأوراقها. لتتساءل الساردة، مما يجعل المتلقي في حيرة من الاستفهام الضمني الذي يشكله فضاء عنونة النص وبدوره يسأل: هل للتوت عذرية؟ ولماذا ارتبط ورق التوت بالحرير والدم؟
في سردية عذارى أوراق التوت تتلامس الدهشة مع حافة السؤال البغيض لفض شفرة "ماذا حدث". لكنه يطل من جديد في نهاية السردية في مشهدها الأخير "لقاء بلا روح". لتقف الحكاية مرة أخرى عند شجرة التوت. شجرة تراها وتشعر بها كالخالة الكبيرة الحزينة على شواطئ الترع في عمق مصر. تثمر حلوى للفقراء الذين لا يدخلون جنة الإله المصري!
الأحوال الحكائية للناس
وتسأل مرة أخرى: ماذا حدث للشخصية المصرية؟ سؤال اجتماعي وسياسي وديني يمكن أن نخوض فيه ونؤلف أبحاثا وكتبا لا حصر لها. لكنها ستبقى مجرد أفكار رمادية وتنظير يفتقد اللحم والدم والحس والعصب. بينما الجواب البسيط تجده في شخصية مصر التي انهزمت رغم النصر.
بين النصر والهزيمة أصعدة كثيرة ومتباينة لعبت على الشخصية المصرية عبر شخوص النص الروائي جسدتها سردية بسيطة جدا بين أحوال الأب "حسين المصري" وأحوال الابن "حازم حسين المصري" حالة من المقامات الإنسانية التي قامت عليها مصر التي لا نعرفها حق معرفتها. نجهلها رغم أن مأساتها أمامنا. نراها كل يوم مع كل دقيقة في حكاية الأب الذي حارب وانتصر وانهزم، وسافر واغترب، وعاد؛ ليحقق نصر ما في معادلة المعاش والمعيشة فوقع في مشهديه الفخ والخطيئة. خطيئة لم يرتكبها إنما تحملتها إنسانيته ونسبها لاسمه "صابرين حسين المصري"، فقير ينتسب لفقير.
الفقر هنا في سردية عذارى أوراق التوت فقر من نوع (ما باليد حيلة) حتى الخطيئة، الاجتهاد، المقاوحة، لحظة التحقق. فقر محيط وكأنه إصرار مريب على الفقر من الشخصية المصرية في الاستكانة والحركة في محلك سر. والاستسهال المتآمر على ضرب الروح المصرية في مقتل هذا بالضبط ما تفسره حالة الابن. ابن المصري!
تعري عذاري أوراق التوت الأحوال الحكائية للناس التي تبيع لحمها بالرخيص. ترصد أوراق التوت غواية أو مكر أو شهوة كلها أمور في الشخصية المصرية تجيد حبكة التحايل على مصر التي نراها في الصورة الحلوة. مصر التي لا يملكها الفقراء ولا تملكهم، بل تهلكهم تحت رغبات وأطماع أصحاب وأصدقاء مصر الحلوة.
في عمق السرد سيتعثر المتلقي في الجواب والتفسير، ماذا حدث ولماذا حدث. وعلى استحياء تضع السردية المتلقي أمام أزمة الواقع المصري في ضياع الشخصية المصرية بإرادتها في لحظة تغفيل كبرى، ومبهرة في نفس الوقت حيث تتلامس الحكايات بمتن لب الحكاية في الكيفية التي تعفنت فيها الشخصية المصرية ومع ذلك لا تستطيع أن تحاكمها، بل تقبلها عزيزة كما هي بكل ضعفها وفجورها.
سردية الفساد والتخلف الاجتماعي وضلال القيم والأعراف ومحدودية بعض العقول المصرية الانتهازية كلها حكايات على هامش الحكاية الأصلية تكشف أن كل هذا أدى وسيؤدي إلى انحلال الشخصية المصرية أكثر، فالضعيف قليل الحيلة سيبقى كما هو مثل الابن في الرواية، والإنسان العاجز أمام كل ما سبق رغم انتصاره الذي كان سيبقى كما هو عاجز في هزيمته كما الأب المصري. والمهزومة ستبقى مجهولة النسب حتى وإن ظهر لها أب مثل "رضا أو صابرين". ولعل دلالة أسماء الشخصيات كاشفة لهذا الوضع المتناقض عديم الحركة.
وأخيرا، صل عمرك بالقراءة، فالقراءة هي عين العبادة وحقها ويقينها!