منظومة إفقار المصريين
إلى متى ستظل الحكومة تصر على العمل بالشروط المجحفة لمنظومة البناء الجديدة، على الرغم من ادراكها يقينا إنها لا تتناسب سوى مع المدن الجديدة، وحرمت الاقتصاد الوطني من مليارات الجنيهات كانت تضخ سنويا بالأسواق المصرية، وألقت بنحو 10 ملايين مصري من العاملين بقطاع البناء والتشييد إلى طابور العاطلين.
فعلى الرغم من مرور شهور على صدور الشروط الجديدة للبناء، إلا إنه لا يوجد مصري واحد يدرى حتى الفلسفة التى وضعت من أجلها الحكومة تلك الشروط غير الطبيعية، التى لم تف حتى بالحد الأدنى من مردود التنظيم الذى أعلنت عنه، غير أنها أدت إلى شلل تام في حركة البناء في كل أنحاء مصر، وحرمت الدولة من موارد كانت تحصل عليها كرسوم لاستخراج رخص وتركيب خدمات، وأدت إلى افقار ملايين الصنايعية من العاملين بالمعمار والمهن المرتبطة بها، وتوقفت معهم كتلة ضخمة من دائرة رأس المال التى كانت تضخ فى الأسواق سنويا.
ولاننا هنا لا نعارض فكرة وقواعد التنظيم وحل مشكلة الإسكان التى تهدف اليها الدولة، ودخلت بموجها كشريك رئسى فى عمليات بناء وبيع الوحدات السكنية، إلا أن الهدف من وجهه نظرى المتواضعة لم يكن في موضعه، ولاسيما أن حقيقية بيانات المعلنة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة تؤكد أن مصر ليس بها أزمة إسكان، وأن الشقق المغلقة فى مصر تكفى ويزيد لحل تلك الأزمة، وأن الأمر لا يحتاج إلى كل هذه الأموال التى انفقتها الدولة على تشييد الوحدات السكنية خلال السنوات الماضية، وكان الأولى بها الخروج بتشريع تستطيع من خلاله فتح وتأجير كل هذا الكم من الوحدات المغلقة.
ولعل ما يدعو للعجب في أمر ذلك الإنفاق الهائل من الحكومة فى هذا الملف، أن بيانات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء تؤكد أنه يوجد 12.5 مليون وحدة سكنية مغلقة فى مصر، تمثل نحو 29.1% من اجمالى عدد الوحدات السكنية فى البلاد، بينها 935 ألف وحدة مغلقة لدواعى السفر خارج البلاد، و3 ملايين و156 ألف وحدة مغلقة لوجود سكن آخر للملاك، و4 ملايين و263 ألف وحدة غير مكتملة التشطيب، و4 ملايين و860 ألف وحدة مغلقة ومكتملة التشطيب، و580 ألف وحدة تحتاج إلى ترميم، و33 ألف عقار صادر ضدها قرار هدم، و2 مليون و267 ألف منشأة خالية ومغلقة، ومليون و410 ألف تحت بنود أخرى.
بطالة وكساد
وما يزيد من غرابة الأمر في أمر ملف الشلل الذى احدثته الحكومة في منظومة البناء في مصر، أن بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تعود إلى عام 2017، وأنه خلال السنوات ال 5 التى تلت خروج تلك الأرقام حدثت فى مصر طفره معمارية هائلة، زادت بالتأكد من تلك الأرقام.
أعى وأقدر رغبة الحكومة في جلب كتلة من التكدس السكانى إلى المدن الجديدة، غير أنها لابد أن تعى أن هناك مصريين ارتبطت ارزاقهم ومعيشتهم بمحل إقامتهم، وأن لهم الحق في البناء والتوسع لاستيعاب الأجيال الجديدة من أبنائهم الذين لا عمل ولا معيشة لهم بالمجتمعات العمرانية الجديدة.
ولآن أمانة العرض تقتضى نقل الصورة بكل تفاصيلها، لتوضيح الآثار السلبية للشروط الغليظة التى شلت الحكومة بمقتضاها حركة البناء في مصر، يكفى الحديث عن كارثة البطالة التى ضربت الآلاف من صغار المقاولين العاملين بقطاع البناء والمعمار الأهلى، وضربت معهم الملايين من عمال البناء ونجارين المسلح والكهربائية وصنايعية المحارة والبياض، والالاف من النجارين وأصحاب ورش تصنيع الأبواب والشبابيك، الذين حل بهم جميعا الخراب، وتحولوا بين يوم وليلة من عمالة منتجة ومستورة، إلى سائقى تكاتك وعاطلين لا يجدون وأسرهم قوت يومهم.
غير أن الحكومة لم تدرك بعد أنها لم تضرب الملايين من العاملين في هذا القطاع في صميم ارزاقهم فحسب، بل ضربت معهم جزء هام من الاقتصاد الوطنى أثرت بشكل كبير على دورة رأس المال في الأسواق المصرية، بعد أن ضربت بالشروط الجديدة سوق الأراضي في مقتل، حيث تجمدت حركة البيع نتيجة العجز عن استخراج تراخيص البناء، وتجمدت معها مليارات الجنيهات كانت تضخ طوال العام في تجارة الاراضى وتحدث انتعاشا في حركة البيع والشراء في كل قطاعات السوق المصري طوال العام.
الواقع يقول إن حل الأزمة لا يحتاح إلى ضخ مزيدا من الأموال وتشيد وحدات سكنية أكثر مما تم، بل يحتاج إلى تشريع يتم بمقتضاه فرض ضريبة على الوحدات المغلقة، تجبر المستأجر غير المستفيد بالوحدة على إعادتها للمالك، وتجبر الملاك على فتح الوحدات المغلقة وعرضها للإيجار حلا للازمة.
الواقع يقول أن شروط البناء الجديدة قد أضرت بكل المصريين وزادت من حالة الكساد بالأسواق، وأنها لا تناسب سوى المساكن في المدن الجديدة، وأنها حرمت الاقتصاد المصري من مليارات الجنيهات تمثل كم لا يستهان به في دورة رأس المال الوطنى، وزادت من البطالة وأفقرت قطاع عريض من المصريين، وآن الأوان لإعادة النظر فيها بعيدا عن القرارات الفوقية للحكومة.. وكفى.