التوابع الكارثية لرحيل الفقي
أجزم أن أغلب الصحفيين فى مصر وصل بهم الحال إلى تمنى الموت من هول ما يتعرضون له من فقر وظروف عمل غير آدمية لا تحقق لأغلبهم حد الكفاف، غير أن أي منهم لم يمتلك شجاعة اتخاذ قرار الرحيل الذي أقدم عليه الزميل عماد الفقي منذ أيام، تاركا رسالة لكل القائمين على أمر الصحافة في مصر، مفادها اننا سنحاججكم أمام الله على ما وصلنا إليه وابنائنا من مزلة.
رحل مدير تحرير أعرق المؤسسات الصحفية فى مصر الأهرام غير مبال بمن ينعيه، غير أنه نعى بقراره حال الاغلبية العظمى من الصحفيين الذين يعانون منذ سنوات بؤس البطالة ومذلة الفقر، ويعيشون وابنائهم على الاستدانة والإعانات، بعد أن انحسر كل دخلهم في بدل التدريب والتكنولوجيا، ووصل ببعضهم الحال جبرا إلى الانفصال عن زوجاتهم وانهيار أسرهم وتشريد أبنائهم، بعد أن تراكمت عليهم الديون، وباتوا يتوارون خجلا مما حل بهم من انهيار.
رحل عماد الفقي وهو يتحسر على التردى الذي وصلت إليها المهنة، وجعلت الجماهير تنصرف عنها من فرط تفاهة وسطحية المحتوى، وانحصر مفهومها لدى الجيل الجديد في فيديو تافه، أو آخر إطلالة لفنانة، أو خبر ساقط لوصلة ردح بين توافه السوشيال ميديا.
عقود إذعان
رحل عماد الفقي معلنا احتجاجه على ما يعانيه الزملاء في أغلب المؤسسات الصحفية من علاقة عمل غير آدمية، وصلت إلى حد أن عدد منها أجبرت الصحفيين على التوقيع على عقود إذعان بأحقيتها فى فصلهم دون أن يكون لأي منهم الحق فى المطالبة بحقوق، أو حتى اللجوء للقضاء، فى الوقت الذى وصل فيه التنكيل بالصحفيين في مؤسسات بعينها، إلى حد امتناع الزملاء عن الحديث جبرا، خشية الإدلاء برأي لا يأتي على هوى الإدارة، فيجد نفسه فجأة مفصولا تعسفيا ومطاحا به إلى طابور العاطلين، دون الحصول على الحد الأدنى من المستحقات، فى ظل صمت وعجز كامل من نقابة الصحفيين عن حماية اى منهم.
رحل عماد الفقي وهو ينعى من موقع رحيله بمؤسسة الأهرام، صمت الجميع على حال الرواتب الهزيلة التي يتقاضاها الزملاء في العديد من المؤسسات القومية والخاصة، والتى لا تكفى حد الكفاف، وحولت الاغلبية العظمى من الصحفيين إلى أقل دخلا من عمال التراحيل، وهو ما بدا واضحا وللأسف خلال السنوات الأخيرة على المظهر الرث للأغلبية العظمى منهم.
رحل عماد الفقي وهو يبكي ألما على حال المئات من الصحفيين في الصحف الحزبية والخاصة، الذين أغلقت صحفهم منذ سنوات، أو تم فصلهم تعسفيا، ووصل بأغلبهم الحال إلى العجز عن تدبير قيمة إيصال المياه أو الكهرباء، لدرجة أجبرت العشرات منهم إلى العمل كعمال في مطاعم ومقاهي ومهن لا تليق بقادة رأي، وسط حالة من الوهن والضعف التى أصاب الكيان النقابى العريق، الذى غرق مجلسه فى صراعات أنسته مهمة البحث في هموم المهنة والمهنيين.
انحدار المهنة
رحل عماد الفقي وهو يلعن من أهملوا المئات من المواهب والخبرات الصحفية الذين تم الاطاحة بهم عمدا إلى طابور العاطلين، فى مقابل الدفع بأنصاف الموهوبين إلى واجهة المشهد، غير مبالين بحالة الإنحدار التى وصلت إليها المهنة، وجعلت الجماهير تنصرف عنها قرفا وسخطا.
رحل عماد الفقي ولسان حاله يقول، إنه لا تقدم لدولة يوجد بها صحفي جائع ومظهره رث، وبيته ينهار، ويتم تعجيزه عمدا عن القيام بالدور الذي ينتظره منه المجتمع كصوت للغلابة والمظلومين.
أعلم أن مقالي هذا قد يغضب الكثيرين، غير أنه لا هروب من المكاشفة أمام صمت المسئولين ومعهم المجالس المتعاقبة لنقابة الصحفيين، على الحال الكارثي الذى وصل إليه الاغلبية العظمى من الصحفيين، والذي بات عارا على كل من أعماه بريق الكرسي، وصم أذنه ثروات المناصب، وبات لا يعنيه سوى التكويش، حتى وإن ذهب الصحفيون الجائعون وأولادهم إلى الجحيم.
للأسف أن زلزال رحيل الزميل عماد الفقي كشف عوار إدارة المنظومة، غير أن خطورة توابعه تكمن في ما هو متوقع من إقدام مئات الزملاء ممن يعيشون أوضاع مادية أقرب إلى التسول، وظروف عمل أقرب إلى العبودية على نهج ذات سلوك عماد الفقي خلاصا مما يتعرضون له من ضغوط ومذلة وظروف مهنية مهينة.
أكرر، أن الخطوة التي أقدم عليها عماد الفقي لم تأتي من فراغ، ولكن نتيجة لتخريب متعمد حل بالمنظومة بأكملها وعصف بالمؤسسات والمهنة والنقابة، وهبط بهيبة ومستوى معيشة الأغلبية العظمى من الزملاء إلى مستوى لا يرضي كافر، وقد ينحدر إلى ما هو أسوأ في حالة عدم التدخل وتصحيح العوار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.. وكفى.