أرواح في سماء مصر
كعادتها كانت الأم تعد طعام الأسرة اليومى عندما دق جرس الهاتف.. رد الأب على الهاتف، تسمرت قدماه، وخرج الصوت من أعماقه يااااااا ولدى.. الحمد لله.. وسقط مغشيا عليه. لم تستوعب الأم ما جرى بعد أن انشغل الجميع بإفاقة الأب.. لم يروا من ملامح الأب إلا دموعًا تنهمر وصوتًا اغتالته حشرجة القهر الممزوج بعجز عن التعبير.
مرت الدقائق كأنها سنوات، والأسرة تحاول فهم ما جرى، ويا ليتهم ما فهموا.. سقط جسد الأم المتعب على الأرض وهى تناجى ربها.. وتتمتم بكلمات غير مفهومة.. هل رحل الشاب المفعم بالحيوية إلى بارئه؟ وعاش شهيدا ضمن قافلة شهداء سيناء الأبرار.. صعد مع الصاعدين.. وطافت روحه الطاهرة بالأماكن والأزمنة فى رحلة السفر من رهق الحياة إلى جنة الخلد إن شاء الله.
تسرب الخبر إلى أطراف القرية التى تحفظ لابنها البار جميل الخَلق والخُلق.. هذا صديقه الذى زامله أيام الدراسة.. وهذا ابن عمه الذى عاش معه خليلًا لم يفرقهما إلا أداء الواجب الوطنى.. وتلك ابنة خالته التى كانت تفخر به أخًا وشقيقًا وداعمًا ورجلًا غير كل الرجال.
سافر إلى خالقه وذلك أفضل.. هجر حياة النصَب والتعب إلى حيث لا ألم ولا وهن ولا نَصَب ولا إرهاق.. غادر دنيا الناس بكل شرورها ليصبح مع الأبد السرمدى الناعم.
لم يرحل وحيدًا، ولم يرحل هاربًا، ولم يرحل بعد مرض.. رحل بطلًا منتصبًا، شامخًا، حاملًا سلاحه على كتفه، رحل وهو يقاتل الشر والأشرار، رحل مدافعا عن القيمة وعن الحياة وعن رسالة الساهرين فى سبيل الله.
رحيل مشرف
أحد عشر بيتا وبيوت مثلها كثير.. بيوت المصريين كلها اتشحت بالسواد وتمتمت شفاه الملايين بالدعوات لهم ولذويهم.. لهم ولوطنهم الأبى.. لهم ولنا جميعا أن يمن علينا الخالق الواحد الأحد برحيل مشرف كما رحلوا.
ترجلوا عن عالم الفناء إلى حيث الأفق الذى لا أفق له.. إلى البراح الإلهى المنعم.. إلى حيث دور الشهداء الأبرار بإذن الله ولا نزكيهم على بارئهم. إنضم الجمع الطاهر إلى ثلاثة آلاف ومائتين وسبعة وسبعين شهيدًا قضوا دفاعًا عن أرض مباركة.. باركها الله فى مواضع كثيرة من كتابه العزيز.
ومثل كل الطيبين كانت جنازاتهم تحيطها ملائكة.. ويزفها بشر بقلوب راضية.. وآباء وأمهات صابرون.. وعائلات اعتادت العطاء من أجل نعمة الاستقرار والأمن والأمان. على الطرف الآخر، كان زملاؤهم يمضون فى نفس الطريق.. طريق البذل والعطاء.. طريق السفر إلى جنات أكثر رحابة وأكثر اتساعًا وأكثر إغراء من حياة الفناء.
طاردوا المجرمين فى كل مكان حتى نالوا منهم، ولا يزال الطريق طويلا تضيئه نفوس آمنت أن لنا وطنا يستحق منا التضحية والفداء والعطاء.. طريق الجهاد ضد أشباح الشر وقتلة الحب. لا يزال لدينا رجال يؤمنون بأن ما عند الله خير فلا نامت أعين الجبناء.. يتذكرون ما قاله خالد بن الوليد عندما بدأ الاحتضار: «لقد شهدت نحو ألف معركة، ولم يبق فى جسدى موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح وهأنذا أموت على فراشى كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء»!
طريقان فى الحياة: طريق الجنة، وطريق الضنك والشر.. وطالما كان فينا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فإنَّا بإذن الله منتصرون على قوى الظلام.
تحية إلى أرواح غادرتنا من أجل أن نحيا، وأمنية أن يلحقنا الله بهم فى جناته، فهو المولى وهو النصير، وهو من بيده كل شيء.