الفشل يحاصر سياسة واشنطن في عزل موسكو.. والعالم يواجه الاختيار الأصعب
سعت الولايات المتحدة الامريكية منذ اللحظة الأولى للحرب الروسية الأوكرانية تجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع موسكو، والتي أعلنت بصراحة على لسان رئيسها فلاديمير بوتين أن صواريخها النووية مستعدة على قواعدها ليحبس العالم أنفاسه في أزمة هي الأصعب في العصر الحديث.
سياسة عزل موسكو
لتعلن واشنطن الإطباق على موسكو بسلاح هو الأخطر والأقوى على الرغم من نعومته ألا وهو العزل العقابي الاقتصادي والسياسي لإيقاف الحرب في أوكرانيا؛ ما واجه مقاومة من جانب متردد بالمجتمع الدولي يرفض الانصياع للضغوط الغربية.
فواشنطن سعت بشكل متواصل إلى عقاب موسكو وعزلها دوليًّا وتشكيل جبهة عالمية في مواجهتها، وذلك منذ اليوم الأول للحرب أواخر فبراير الماضي إلا أن الولايات المتحدة شهدت مواقف منقسة وسط الحلفاء كلها تعتمد على مصالحها المتشابكة عالميًّا.
ورغم أن الولايات المتحدة وأوروبا على وجه الخصوص كانت قد توعدت موسكو في وقت سابق بـ «عقوبات قاسية من جبهة غربية موحدة ضدها»، إلا أن ذلك لم يتحقق بشكل واقعي.
لتشتعل أزمة التوتر من جديد خوفًا من اتخاذ قرارات غير مسؤولة من الممكن ان تورط العالم في حرب نووية تبيد البشرية وسط تساؤل طرحته مؤخرًا وكالة الأنباء الفرنسية عن نجاح الجهود الغربية في عزل روسيا لتجنيب العالم صراع مدمر.
وقال التقرير إن «ادعاء الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن موسكو أصبحت أكثر عزلة من أي وقت مضى يشبه تفكير الأمنيات»، إذ واجهت الجهود المبذولة لنبذ موسكو مقاومة من جانب متردد في المجتمع الدولي.
وقالت سيلفي ماتيلي، نائبة مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والشؤون الإستراتيجية، إن «هناك عددًا من الدول شديدة الحذر وترفض الانصياع للضغوط الغربية».
الصدمة الأولى
ومثلت أولى الصدمات للولايات المتحدة عملية التصويت التي جرت بالجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس الماضي.
ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن تيد جالين كاربنتر، باحث الدراسات السياسة العسكرية والخارجية بمعهد كاتو، قوله في تقرير بحسب بمجلة «ناشونال انتريست»: «رغم تمرير القرار الذي يدين روسيا إلا أن خريطة التصويت مثلت قلقا لواشنطن في مساعيها لبناء تحالف عالمي حصين لإلحاق أضرار سياسية ومالية بحكومة فلاديمير بوتين».
وحينها، رفضت 35 دولة إرضاء الولايات المتحدة، وامتنعت عن التصويت، من بينها العراق، وفي ضوء الاعتماد العسكري والاقتصادي الواسع النطاق لبغداد على الولايات المتحدة، كان يُعتقد أن تصويت العراق سيكون مؤيدًا للقرار.
وهناك مفاجأة كبيرة أخرى تتمثل في مجموعة الدول الأفريقية الكبيرة التي امتنعت عن التصويت، وبينها أكبر لاعب اقتصادي وسياسي في القارة، جنوب أفريقيا.
كما رفضت الهند، الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة، التصويت لصالح القرار عبر الامتناع عن التصويت، وعلى خطاها حذت فيتنام التي كان موقفها محبطًا، حيث ترعى واشنطن هانوي منذ سنوات اقتصاديًّا وأمنيًّا.
وقال كاربنتر إنه عندما ترفض أكثر من 20% من أعضاء الجمعية العامة تبني إجراء سعت إليه واشنطن فقط للشعور بالرضا، فإن التحالف العالمي، الذي ترعاه الولايات المتحدة يبدو هشًّا في حقيقة الأمر.
إخفاق جهود عزل موسكو
وفي وقت لاحق، أحصت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية الدول التي وقفت إلى جانب روسيا وتلك التي بقيت محايدة أثناء تفاقم الوضع في أوكرانيا، معترفة بأن معظم سكان العالم يعيشون في هذه الدول.
وقسم أصحاب التقرير دول العالم إلى موالية لروسيا وأخرى للغرب ومحايدة، وقالت الصحيفة بهذا الشأن إن «حوالي ثلثي سكان العالم يعيشون في دول محايدة أو موالية لروسيا».
لكن المثير للاهتمام هو أن التطورات الدولية لم تكشف فقط إخفاق الولايات المتحدة في جهودها لعزل روسيا، بل كشفت أيضا مدى هشاشة وتصدع تحالفاتها على المستوى الدولي.
هشاشة التحالفات هذه تنعكس بصورة كبيرة داخل المعسكر الغربي ذاته، فدول حلف شمال الأطلسي (الناتو) منقسمة بشكل واضح فيما يتعلق بالموقف من موسكو، والحال ذاته بين دول الاتحاد الأوروبي.
وفي حين حظرت الولايات المتحدة وارداتها من النفط الروسي، لم تتمكن أوروبا حتى الآن من اتخاذ قرار مماثل بشكل تام، وتجري في الوقت الحالي مفاوضات لتوقيع الحزمة السادسة من العقوبات على روسيا، وسط مخاوف دول أوروبية عديدة من آثار ذلك الحظر على اقتصاداتها.
وقال تقرير للإذاعة الألمانية إن بولندا ودول البلطيق تضغط من أجل إجراءات أكثر صرامة وأسرع بشأن الغاز والنفط، لكن الدول الأكثر اعتمادا على الطاقة الروسية، وفي صدارتها ألمانيا، تطلب مزيدا من الوقت لإيجاد بدائل، ما يثير غضب دول أعضاء أخرى.
الغاز مقابل الروبل
أما حظر الغاز فهو القرار الأصعب على أوروبا، بل أعلنت شركات كبرى في دول مثل المجر والنمسا وألمانيا الامتثال للقرار الروسي المتعلق ببيع الغاز بالعملة المحلية «الروبل».
يضاف إلى ما تقدم الموقف الفرنسي الذي صاغه الرئيس إيمانويل ماكرون ودافع فيه عن تواصل مستمر مع موسكو، وأكد في كلمته قبل يومين في ستراسبورج، أن «السلام في أوكرانيا لن يتم بإذلال روسيا.
حلفاء الولايات المتحدة اتفقوا على التضامن معها بما لا يخل من مصالحهم الوطنية».
أما في الشرق الأوسط، فقد سعت واشنطن مرارًا لإخفاء خيبة أملها من التواصل والتنسيق المستمر بين المملكة العربية السعودية والرئيس الروسي فيما يتعلق بإمدادات النفط في ظل ارتفاع أسعاره عالميًّا وتكبد إدارة الرئيس الأمريكية ثمنا سياسيا لذلك قبل أشهر قليلة من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.
وقبل الزيارة الأخيرة التي أجراها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى البيت الأبيض، كشف تقرير لوكالة «بلومبرج» أن بايدن سيسعى لدى الدوحة بشكل شخصي لإقناعها بتوفير الغاز للدول الأوروبية حتى تتمكن أوروبا من إنهاء عقود الغاز وقطع علاقاتها التجارية والاقتصادية مع روسيا.
وبعد أيام من تلك الزيارة، أكدت قطر ودول عدَّة من منتجي الغاز في الشرق الأوسط أنهم لن يتمكنوا من تعويض أوروبا عن الغاز الروسي.
الهند
وفي آسيا، حيث سعت إدارة بايدن لبناء تحالفات قوية ضد الصين، وكان الشريك الأساسي في ذلك هو الهند، أوضح شيفشانكار مينون، مستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء الهندي مانموهان سينج، أنه «بالنسبة لنيودلهي، شكلت الحرب خيارًا صارخًا وغير مرحب به بين الغرب وروسيا، وهو خيار فعلت كل ما في وسعها لتجنب القيام به».
وكتب في مقال نُشر مطلع أبريل الماضي بعنوان: «فانتازيا العالم الحر: هل الديمقراطيات متحدة حقًّا ضد روسيا؟».
فيما أوضح تقرير لـ«فويس أوف أمريكا» بعنوان «تحطم الشراكة الأمريكية في منطقة الهند والمحيط الهادئ بسبب أزمة أوكرانيا»، أن نيودلهي تعتمد بشكل كبير على مشتريات الدفاع الروسية.
ولم تكتف نيودلهي بتجاهل مطالب واشنطن بوقف علاقاتها المتنامية مع روسيا، بل اتفقت مع موسكو على آلية للتبادل التجاري بالعملات المحلية، هذا فضلا عن العلاقات الدفاعية القوية بين البلدين.
ترتيب الدول المستوردة
وتصدرت الهند ترتيب الدول المستوردة للسلاح الروسي في السنوات الماضية إذ إن 70% من الأسلحة التي استوردتها نيودلهي خلال هذه الفترة كانت روسية، وفقا لدراسة صادرة عن المركز الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم.
وفي أبعاد أخرى لفشل مساعي عزل موسكو، تكثف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) المناقشات، منذ شهرين، لنقل اجتماع لجنة التراث العالمي الذي كان من المقرر عقده بروسيا في يونيو المقبل، لكنها أسفرت عن نتائج محدودة: إعلان تأجيل غير محدد حتى الآن مع عدم وجود ضمان لمنع روسيا من استضافة الاجتماع بمجرد انتهاء الحرب.
مجموعة العشرين
كما جرت محاولة مماثلة مع مجموعة العشرين للاقتصادات الكبرى، حيث تم حث الرئاسة الإندونيسية على استبعاد موسكو من المنتدى، لكنها رفضت في النهاية القيام بذلك باسم الحياد.
كما أن الافتقار إلى الآثار قصيرة المدى للعقوبات الاقتصادية لا يساعد الغرب في إقناع الدول المترددة أيضًا، وقالت جودي ديمبسي المحللة في مركز أبحاث كارنيجي يوروب: «نعم العقوبات قاسية لكنها لا تمنع بوتين من توسيع حصاره لماريوبول.. أو قصف مدن أخرى».
وقالت ماتيلي: «إذا كان الهدف هو التأثير في بوتين حتى ينسحب من أوكرانيا، فيجب أن يقال إن ذلك لم ينجح»، مضيفة أن الرئيس الروسي «قلص بالتأكيد من طموحاته، ولكن ليس استجابة للعقوبات بقدر ما كان ذلك بسبب تصميم القوات الأوكرانية على الأرض».
لتبقى طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا تدق وسط أمواج عاتية من صراعات المصالح المشتركة في ظل سياسة تشابك المصالح العالمية التي أطالت أمد الحرب في كييف وسط جسر أمريكي غربي مشترك يضخ المساعدات لنظام فولوديمير زيلينسكي ويبقي العالم على حبل مشدود في تخوف من احتمالية الحرب المباشرة بين العملاقين الشرقي والغربي.