نهوض رغم الرماد والبارود
عندما يكون اللعب السياسي وتكسير العظام بين الكبار ومعهم، فعلى الجميع أن يصمت ويتأمل كي يتعلم دروس القيادة وإدارة المعارك والنهوض بالدول من بين الرماد والبارود، حتى في ظل استمرار الحرب من دون انهاك الشعب بالجباية وإغراق البلد بالقروض.
أرادت الولايات المتحدة وبريطانيا ومن خلفهما الاتحاد الأوروبي، استنزاف روسيا عسكريا في حربها مع أوكرانيا ثم سحق اقتصادها القوي بعقوبات غير مسبوقة ونبذها من المجتمع الدولي، صحيح تحقق مسعاهم في الأيام الأولى للحرب، وشهد الروبل تراجعا قياسيا وفقد الكثير من قيمته، وانسحبت عشرات الشركات العالمية من العمل في السوق الروسي، وجمدت دول كثيرة الاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي..
بعدما أعلنت طرد المصارف الروسية من نظام سويفت البنكي العالمي، ما جعل الرئيس بايدن يطل منتشيًا بنجاح خططه لتدمير روسيا، قائلًا "العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا تحول عملتها الروبل إلى أطلال وأنقاض".
لكن لأن روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، تضع المتخصص المناسب في مكانه الصحيح ومنحه صلاحيات كاملة، توالت الإجراءات والقرارات المدروسة، التي أوقفت انهيار النظام المالي وقفزت بسعر الروبل مستعيدًا قيمته في وقت قياسي وتعافى معها الاقتصاد وانتعش بصورة مذهلة وانخفض التضخم، بينما انكمش اقتصاد المتآمرين وبدأت معاناة بلدانهم.
يعود الفضل في التغلب على العقوبات الغربية غير المسبوقة واستعادة قيمة العملة المحلية وازدهار الاقتصاد الروسي، إلى السياسة المالية وقرارات "حارسة خزائن روسيا" إلفيرا نابيولينا محافظة البنك المركزي، التي عينها الرئيس بوتين في العام 2013. وتمكنت ببراعة من عبور العديد من الأزمات الاقتصادية بثقة وأمان..
خطة إلفيرا نابيولينا
وكان أول إنجازاتها المذهلة بعد عام واحد من توليها المنصب، حين تجاوزت الأزمة المالية في روسيا نتيجة انخفاض سعر النفط والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها إثر إعلان الرئيس بوتين، ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، حيث بدأت بتثبيت قيمة الروبل وزادت احتياطات النقد الأجنبي واعتمدت سياسة مالية لا تثقل كاهل الشعب ولا تزيد معاناته، ثم وضعت أسس النظام الاقتصادي والمالي الروسي، ما جعل بوتين يجدد ولايتها لفترة ثانية أنعشت خلالها الاقتصاد الروسي، ليبلغ الرئيس الروسي مجلس الدوما بالتجديد لها لولاية ثالثة في مارس الماضي.
خلال الفترة بين 2013 و2017، أغلقت إلفيرا نابيولينا نحو 300 مؤسسة مالية، وشجَّعت على نظام سعر صرف عائم خفّف الضغط على احتياطيات النقد الأجنبي، وخفّض معدل التضخم إلى أدنى مستوى منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، وعزز انتعاش الاقتصاد الروسي، ما أدى إلى تتويجها الأفضل بين محافظي البنوك المركزية، واختارتها مجلة فوربس ضمن أقوى نساء العالم، واستعان بها صندوق النقد الدولي لإلقاء محاضرات مهمة.
مع بداية الحرب الراهنة، منحها الرئيس بوتين، صلاحيات مطلقة لمواجهة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومعالجة تأثيرها على روسيا، لتبدأ إلفيرا نابيولينا العلاج الجذري للأزمة الطاحنة، حيث رفعت سعر الفائدة القياسي للبنك المركزي من 9.5 في المئة إلى 20 في المئة مباشرة، لثَني الشعب عن سحب أمواله من البنوك، وفي الوقت نفسه أفرجت عن نحو 700 مليار روبل من الأموال الاحتياطية لدعم االسوق المحلية، وأمرت البنوك بتأجيل إعادة تقييم الأصول للحفاظ على قيّمتها العالية.
نجحت إجراءات إلفيرا نابيولينا في إيقاف تدهور الروبل وسرعان ما استعاد قيمته رغم استمرار الحرب، لتنتقل إلى مواجهة التضخم بمطالبة الشركات الروسية بشراء الروبل بنسبة 80 في المئة من العملات الأجنبية، لأن العقوبات تعيق بيع الاحتياطيات الروسية في الخارج لدعم الروبل، كما أصدرت سلسلة ضوابط وقيود تحد من إخراج المال خصوصا العملات الأجنبية من البلد..
وبعدها ربطت إلفيرا نابيولينا الروبل بالذهب بعيدا عن الدولار واليورو، إلى جانب مطالبة دول الاتحاد الأوروبي بتسديد فواتير الغاز الطبيعي بالروبل لدعم العملة المحلية، ومن يرفض التسديد بالروبل لن يحصل على الغاز الروسي، وفي المقابل تسدد موسكو ما عليها للغرب بالروبل وليس الدولار، ما يعني أن الدول والشركات الغربية ستتضرر من انخفاض قيمة الروبل بسبب العقوبات.
ومع تطبيق الإجراءات الجديدة تضاءل السحب من احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية وانتعش الروبل مسجلا أعلى مستوى له على الإطلاق، فقررت إلفيرا نابيولينا خفض سعر الفائدة إلى 17 في المئة، قبل أن تخفضه مجددا إلى 14 في المئة، كما رفعت بعض الإجراءات المقيدة للتعامل بالدولار، واعتمدت على صادرات النفط والغاز إلى جانب السياسة المالية لحماية الاقتصاد وانعاشه وخفض معدل التضخم، ومنها بدأت نابيولينا في التخطيط لنظام عالمي جديد بعيدا عن هيمنة الولايات المتحدة، سيستفيد منه كثير من دول العالم.