وفاة علي بك الكبير.. قائد أهم محاولات تحديث مصر قبل عصر محمد علي
في مثل هذا اليوم من عام 1773، توفي علي بك الكبير، سلطان مصر المملوكي، الذي قاد واحدة من أهم المحاولات لتحديث مصر في العصر الحديث، قبل عصر محمد علي، واللحاق بالعالم المتقدم، قبل أن تفشل حركته في الاستقلال عن الدولة العثمانية التي كانت مصر تابعة لها ويدفع حياته ثمنا لطموحاته.
ما قبل علي بك الكبير
صارت مصر ولاية عثمانية منذ أن نجح السلطان سليم الأول في القضاء على دولة المماليك ودخول القاهرة في سنة (923 هـ = 1517م)، وتعاقب على حكم مصر منذ ذلك الحين حتى مجيء الحملة الفرنسية سنة 1798 عدد من الولاة الذين ترسلهم الدولة العثمانية لإدارة شؤون البلاد في مصر، واستمد هؤلاء هيبتهم من هيبة الدولة وقوتها، وأمسكوا بزمام الأمور في قوة وحزم، وإن مارس بعضهم كثيرا من التجاوزات في إدارته للحكم.
ولم يؤد بسط الدولة العثمانية نفوذها على مصر إلى القضاء على نفوذ المماليك، على الرغم من انقضاء دولتهم، بل على النقيض من ذلك فقد شاركوا الوالي العثماني في إدارة البلاد، لكن نفوذهم ظل شاحبا ما دامت الدولة قوية مرهوبة الجانب مسموعة الكلمة، حتى إذا ما بدأ الضعف يتسلل إليها وتنشغل بحروبها مع أعدائها بدأ نفوذ المماليك يتصاعد تدريجيا في مصر، وبدءوا يتلاعبون بالوالي العثماني كيفما شاءوا.
وقد ساعد هذا الضعف الذي ساد الدولة في القرن الثامن عشر الميلادي، على ظهور عدد من زعماء المماليك الذين كانوا يتولون منصب شيخ البلد ـ حاكم القاهرة ـ وكان هذا المنصب أعلى المناصب التي يتقلدها المماليك البكوات، وكان لا يعتليه إلا أكثرهم عصبية وأشدهم بأسا، وأوفرهم جندا، وكان أبرزهم في هذه الفترة على بك الكبير.
أصول علي بك الكبير
لا تُعرف أصول على بك الكبير على وجه الدقة واليقين، فهو مثل غيره من آلاف المماليك الذين يُشترون صغارا ويُجلبون إلى تركيا حيث يعتنقون الإسلام، ويخضعون لتربية عسكرية صارمة، ويبدءون رحلتهم في الصعود إلى النفوذ والسيطرة.
لكن المؤرخ الأوروبي ستافرو لانسبان الذي كان معاصرًا لـ علي بك الكبير وملاصقا له، أكد أنه ولد في سنة (1140 هـ ـ 1728 م) وخطف في الثالثة عشرة من عمره، وبيع في القاهرة للأمير إبراهيم كتخدا، وبدأت معه رحلة التعليم والتدريب التي يمر بها المماليك.
في تلك المرحلة ظهرت ملامح شخصيته وكفاءته العسكرية، فتفوق على أقرانه في ركوب الخيل، والضرب بالسيف والطعن بالرمح، واستخدام الأسلحة النارية، وهو ما جعل سيده يعتقه وهو لم يتجاوز العشرين، وولاه بعض المهام الإدارية، وأصبح ـ أميرا ـ وعمره اثنان وعشرون عاما، ولما توفي أستاذه إبراهيم كتخدا سنة 1754 خلفه في منصب شيخ البلد.
لم يكن هذا المنصب سهلا ميسورا، بل كان دائما مفروشا بالصعاب والعقبات وممتلئا بالخصوم والمنافسين، لهذا بدأ علي بك بشراء المماليك والإكثار منهم وتدريبهم على فنون الحرب والقتال، والاستعداد للساعة الحاسمة التي يفوز فيها بالمنصب الكبير، ومع ذلك لم ينجح في الاحتفاظ بمنصبه، وأجبره خصومه على الفرار من القاهرة إلى الصعيد تارة وإلى الحجاز تارة وإلى الشام تارة أخرى.
استطاع العودة إلى منصبه عام 1767 وهو أعظم قوة وأكثر عددا، ولما استتب له الأمر التفت إلى من بقي من خصومه فصادر أموالهم وقتل بعضهم أو نفاهم حتى خلا له الجو وبسط سيطرته على البلاد، ولم يسلم من هذه الإجراءات من قدموا له العون والمساعدة فبطش ببعضهم ونفاهم إلى خارج البلاد.
اتسمت إجراءات علي بك الكبير مع خصومه بالقسوة حتى وصفه الجبرتي بأنه هو الذي ابتدع المصادرات وسلب الأموال من مبدأ ظهوره، واقتدى به غيره، وكان أداته في هذا الشأن عدد من أتباعه أشهرهم محمد بك أبو الدهب وأحمد الجزارومراد بك وإبراهيم بك.
الحرب مع روسيا
استغل علي بك الكبير فرصة انشغال الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، ولم تكن نتائجها في صالح العثمانيين الذين منوا بخسائر فادحة، فاستصدر أمرًا من الديوان بعزل الوالي العثماني، وتولى هو منصب القائمقام بدلا من الوالي المخلوع 1768، وأتبع ذلك بمنعه قدوم الولاة الأتراك إلى القاهرة، فلم ترسل الدولة أحدًا منهم على مدى أربع سنوات، كما أوقف إرسال الأموال المقررة سنويًّا على مصر إلى الدولة العثمانية.
نجح أيضا في السيطرة على الوجهين البحري والقبلي، وقضى على الفتن هناك، ثم قضى على نفوذ شيخ العرب همام بن يوسف الهواري زعيم الصعيد، الذي كان يلجأ إليه كثير من منافسي علي بك الكبير طالبين حمايته وإمدادهم بالمال والسلاح، ولم يلبث أن توفي شيخ العرب همام وزالت دولته من بلاد الصعيد، وخلصت مصر بوجهيها البحري والقبلي لعلي بك وأتباعه.
ضم بلاد اليمن والشام
تطلع علي بك لضم الحجاز لتأمين الحج للمصريين والمغاربة والشوام، وإحياء تجارة مصر مع الهند بالاستيلاء على ميناء جدة التجاري ذي الشهرة الواسعة، وجعله مستودعا وسطا لتجارة الهند والشرق الأقصى، فيعيد بذلك الثروة والغنى التي فقدتها مصر من جراء تحول تجارة الشرق إلى طريق الرجاء الصالح.
وانتهز علي بك فرصة النزاع الذي دار بين اثنين من أشراف الحجاز حول الحكم، فتدخل لصالح أحدهما وأرسل حملة عسكرية يقودها محمد بك أبو الدهب عام 1770، ونجحت في مهمتها، ونودي بـ «علي بك الكبير’» في الحرمين الشريفين سلطان مصر وخاقان البحرين، وذكر اسمه ولقبه على منابر المساجد في الحجاز كلها.
شجع نجاح حملة الحجاز علي بك الكبير على أن يتطلع إلى إرسال حملة إلى بلاد الشام منتهزا سوء أحوالها وتعدد طوائفها، واستنجاد صديقه والي عكا ظاهر العمر، به الذي نجح في أن يمد نفوذه في جنوب سوريا، وكان هو الآخر يسعى إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية.
تمكن محمد أبو الدهب من تحقيق انتصارات هائلة، فاستولى على غزة والرملة، ولما اقتربت قواته من بيت المقدس خرج إليه حاكمها وقضاتها وأعيانها ورحبوا بقدوم الحملة المصرية فدخلتها دون قتال، واستسلمت يافا بعد حصار دام شهرين، ثم انضمت قوات الشيخ ضاهر إلى القوات المصرية ففتحوا صيدا، ولم يبق أمامهم سوى دمشق، والتقى الجيشان الحليفان بالجيش العثماني الذي لم يستطع المواجهة والصمود ولقي هزيمة كبيرة، ودخل محمد أبو الدهب دمشق في يونيو عام 1771.
انقلاب أبو الذهب
وفي الوقت الذي كان فيه علي بك الكبير يحتفل بهذا النصر الكبير، وتزينت القاهرة لهذه المناسبة استصدر السلطان العثماني فتوى من قاضي القضاة والمفتي الأعظم باعتبار علي بك ورجاله وحلفاءه وأنصاره، بغاة خارجين على الدولة يجب قتلهم أينما وجدوا.
عاد أبو الدهب سريعًا إلى مصر، وسحب في طريق عودته جميع الحاميات التي كان قد أقامها في البلاد المفتوحة، وبدأ يحارب سيده، ولا يلتزم بقراراته، وتأكد علي بك من عدم ولاء أبي الدهب له بعد رفضه عدم العودة إلى فلسطين، وعجز عن اتخاذ قرار صارم ضد تابعه الذي خرج عليه.
لم يعد هناك مفر من الصدام بين الرجلين، وانتهت الغلبة فيه لأبي الدهب، واضطر علي بك الكبير إلى مغادرة القاهرة والالتجاء إلى صديقه ظاهر العمر، ومعه ثروته الضخمة وسبعة آلاف من فرسانه ومشاته، وبدأ في تنظيم قواته والاتصال بقائد الأسطول الروسي الذي راح يمنيه بقرب وصول المساعدات، لكن هذه الوعود تمخضت عن ثلاثة مدافع وبضعة ضباط وعدد من البنادق.
تعجل علي بك العودة إلى مصر على غير رغبة ضاهر العمر، الذي نصحه بالتريث والتمهل، حتى إذا وصل إلى الصالحية بالشرقية، التقى بجيش أبي الدهب في 26 أبريل 1773 م، في معركة كان النصر فيها حليف الأخير، وأصيب علي بك في هذه المعركة بجراح خطيرة، ونقل إلى القاهرة، حيث قدم له مملوكه أبو الدهب الرعاية الطبية، لكن ذلك لم يغنِ عن الأمر شيئا فلقي ربه في مثل هذا اليوم من عام 1773، تاركًا للتاريخ أقرب التجارب لاقتحام عصر الحداثة في المحروسة بالتاريخ الحديث.