احنا رايحين على فين؟
إحنا رايحين على فين؟.. سؤال خطير وحيوي يثير قلقا لدى كل المصريين، بعد سلسلة النكبات الاقتصادية المتتابعة التي ألمت بالاقتصاد العالمي، وأجبرت مصر على المجازفة بمجموعة من الإجراءات الاقتصادية الصعبة للخروج من ذلك النفق المظلم، الذي يخشى الجميع أن يزداد سوءا، ولاسيما بعد حملة التشكيك الخارجية المتعمدة التي طالت مستقبل الاقتصادي المصري خلال الأيام القليلة الماضية.
ولأننا هنا بصدد الحديث عن قضية شائكة تتعلق بمستقبل مصر الاقتصادي، فلابد من استخدام لغة الأرقام التي لا تكذب، لمنح القارئ حرية تكوين رؤية حقيقية حول مستقبل بلاده الاقتصادي، بعيدا عن تأثير إعلام الداخل أو الخارج.
فلا يختلف اثنين على أن الواقع الاقتصادي المضطرب فى العالم خلال الشهور الماضي، قد وضع مصر في مأزق صعب للغاية، فرض عليها معدل تضخم غير متوقع بالموازنة زادت عن الـ 10% بعد أن كان متوقعا ألا يزيد عن 6.6% في ظل ارتفاع غير طبيعي في أسعار السلع الأساسية في الأسواق العالمية، وتراجع ضخم في واردات السياحة عامة والروسية الأوكرانية خاصة، بنحو يزيد عن 4.5 مليون سائح.
إجراءات قاسية
في الوقت الذي أدى فيه رفع البنك الفيدرالي الأمريكي لسعر الفائدة إلى الإضرار بمصر بشكل كبير، بعد إنسحاب رؤوس أموال أجنبية ضخمة من الاستثمار في أدوات الدين الحكومية بالأسواق الناشئة - ومن بينها مصر- واتجاهها إلى الأسواق القوية في العالم.
وكان من الطبيعي أن يفرض الوضع الاقتصادي المتأزم، والنقص الحاد في واردات النقد الأجنبي، ضرورة إقدام الحكومة المصرية على مجموعة من الإجراءات أحلاها مر، للبحث عن مصادر جديد لتقليص عجز الموازنة، وتمويل فوائد خدمة الديون الخارجية التي تقدر بنحو 580 مليار جنيه سنويا، وتمويل واردات البلاد من السلع الأساسية التى تزيد عن الـ 60 مليار دولار سنويا، إلى جانب توفير موارد للمضي في خطة التنمية الضخمة التي شرعت في تنفيذها منذ عام 2016 بالتوازي مع برنامج الإصلاح الاقتصادي.
وكانت البداية بقرار وقف العمل ب "مستندات التحصيل" في العمليات الاستيرادية، لتقنين نزيف النقد الأجنبي الذي يتم إنفاقه على تلك العمليات، والذى وصل خلال الشهور الـ 9 الأولى من العام الماضى إلى ما يزيد عن الـ 61 مليار دولار، وهو القرار الذى حمل في ظاهره تنظيما لمنظومة الاستيراد، وفي باطنة حدا لتسرب النقد الأجنبي، إلا أنه يحمل مخاوف من أن ينعكس بالسلب على توافر كثير من السلع الهامة والحيوية المستوردة، خاصة قطع الغيار ومستلزمات الإنتاج، والتأثير بالتبعية على الإنتاج فى كثير من القطاعات المصرية.
كما اضطرت الحكومة إلى العودة من جديد لطلب الدعم من الأشقاء الخليجيين، لجلب ودائع جديدة لتأمين الاحتياطي النقدي بالعملة الأجنبية، وهو ما أسفر بالفعل عن وديعة سعودية بقيمة 5 مليارات دولار، مع وعود بضخ استثمارات ضخمة خلال الفترة القادمة، ورغم الاستجابة المشكورة من الأشقاء بالخليج، إلا أن الخطوة تحمل كثيرا من المخاوف، خاصة فى حالة طلب أى من تلك الدول سحب ودائعها النقدية بشكل مفاجئ، مثلما حدث فى السابق من دولة قطر، ولاسيما وأن قيمة الودائع الخليجية النقدية بالبنك المركزى المصرى تبلغ فى الوقت الحالى نحو 18 مليار دولار، منها 5.7 مليار دولار وديعة إماراتية، و4 مليارات دولار وديعة كويتية. و3.2 وديعة سعودية، ارتفعت إلى 8.2 مليار بعد إضافة المليارات الـ 5 التي أودعتها المملكة منذ أيام.
تجاوز الأزمة
كما عادت الحكومة بحكم الأزمة إلى طلب قرض جديد من صندوق النقد الدولي، قد يزيد من أعباء التزامات خدمة الديون على الموازنة، ولاسيما وأن البيانات المعلنة تؤكد أن قيمة الديون الخارجية المصرية طويلة الأجل قد وصلت إلى 137 مليار و850 مليون دولار، إلى جانب ديون قصيرة الأجل تقدر ب 13.7 مليار دولار، وأن فوائد خدمة تلك الديون تلتهم نحو 580 مليار جنيه من واردات الموازنة التي تبلغ نحو 1.8 تريليون جنيه، أي أن فوائد خدمة الدين تلتهم بمفردها نحو 32% من قيمة مصروفات الموازنة المصرية، في ظل احتياجات تمويلية تزيد عن 1.068 تريليون جنيه.
كما أعلنت الحكومة أيضا انها ستطرح مع نهاية العام المالى الحالى "سندات سياسية" للاكتتاب أمام المستثمرين الأجانب، بهدف جذب حصيلة تمويلية من النقد الأجنبي، وعلى الرغم من أن ذلك النوع من الاستثمار لا يمثل خطورة على الدولة بقدر خطورته على المستثمر، إلا أن البعض يرى فيه نوعا من المساس بالسيادة، والعودة بالسلب على سمعة البلاد في حالة تعثرها عن الوفاء بالتزامات تلك الصكوك، في ظل توقعات من وكالة "ستاندرد أند بورز" أن تؤدى تلك السندات بمصر إلى تخطى تركيا واحتلال قمة الدول المصدرة للدين السيادي في المنطقة.
ولعل ما يدعو للعجب فى أمر ما اتخذته الحكومة المصرية من إجراءات اعتمدت أغلبها على الخارج، أن لغة الأرقام تؤكد أن مصر قد حققت عوائد مذهلة من العملة الأجنبية خلال العام الماضى، وتحديدا خلال عنفوان جائحة كورونا وموجة التضخم التى ضربت كل موازنات دول العالم، حيث حققت والواردات المصرية من المنتجات غير البترولية 32 مليارا و128 مليون دولار، إلى جانب 11 مليار و875 مليون دولار من صادرات الوقود المختلفة، و6.3 مليار دولار من عائدات قناة السويس، و31.5 مليار دولار من تحويلات العاملين بالخارج، و13 مليار دولار من عائدات السياحة.
أي أن لغة الأرقام تقول هناك أمل في تجاوز مصر للأزمة الحالية بالاعتماد على الذات وتنشيط الموارد الوطنية الخالصة، دون اللجوء إلى القروض الخارجية التي قد ترهق البلاد اقتصاديا في المستقبل.
غير أنه في ظل الإصرار على اللجوء للخارج، فلا خلاص من أعباء ما هو قادم، سوى بتوجيه الجزء الأكبر من خطة التنمية إلى التوسع فى قطاعى الزراعة والصناعة، وتنمية المصادر الوطنية الأخرى، والتى سينعكس مردودها بالتبعية فى صورة إنتاج، وتصدير، وموارد وطنية حرة من الداخل بالعملة الصعبة بعيد عن الاقتراض والودائع والصكوك التي قد ترهق كاهل الدولة بأعباء تهدد مستقبلها الاقتصادي.. وكفى.