لماذا لا نكتفي ذاتيا من القمح؟
ألم يحن الوقت للحكومة أن تتحرك نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح بعد سنوات من الإهمال دفعت بنا إلى صدارة دول العالم استيرادا لهذا المحصول الاستراتيجي، وألا تحتم المسئولية الوطنية علينا أن نتخذ من بوادر أزمة القمح العالمية التي ولدتها الحرب الروسية الأوكرانية جرس إنذار لحماية الأمن الغذائي المصري أمام أي هزات عالمية جديدة.. وماذا يمنعنا من تحقيق ذلك رغم الإمكانيات التى تميزنا عن كثيرا من دول العالم المنتجة للقمح؟.
اعتقد أن تلك الأسئلة بديهية وبسيطة وفرضت نفسها على أذهان كل المصريين، بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وظهور احتمال بتعرض أمننا الغذائي للخطر، نتيجة لتوقف واردات القمح من الدولتين التى تعتمد عليهما مصر فى توريد نحو 80% من احتياجاتها من القمح، واضطرار الحكومة فى أعقاب الأزمة إلى فتح مصادر جديدة للاستيراد، لا تعد أكثر من مسكن لا ينهي أو يضمن تأمين الحد الأدنى من المحصول الاستراتيجي الذي يعد الاكتفاء منه آمنا قوميا لا مجال للتهاون فيه، حتى وإن زادت تكلفة انتاجه محليا أضعاف استيراده من الخارج.
فطبقا للأرقام الحكومية المعلنة تستهلك مصر سنويا من القمح ما بين 18 و20 مليون طنا، لتلبية احتياجات نحو 103 مليون مصري، يستهلك كل منهم نحو 183 كيلو جراما من القمح سنويا، وسط توقعات بأن يرتفع حجم استيراد مصر من القمح هذا العام إلى 23 مليون طن، بزيادة 2.1% عما تم استيراده في موسم 2020-2021، بسبب زيادة عدد السكان.
حلم الاكتفاء الذاتي
في حين لا تزال المساحات المزروعة بالقمح في البلاد لا تزيد عن 3 ملايين و659 ألف فدانا فقط، من المتوقع أن تصل انتاجيتها هذا العام -طبقا لأكثر التقديرات تفائلا- إلى 10 ملايين طن، أى ما يعادل 50% فقط من احتياجات البلاد، بزيادة نحو 9.2% عن إنتاجية العام الماضى التى لم تتعد 40.8% من الاحتياجات الفعلية للبلاد، التي استوردت في عام 2021 ما يزيد عن 18 مليون طن من القمح، منها 6 ملايين طنا عن طريق الحكومة، و12 طنا عن طريق القطاع الخاص، فى ظل توقعات من وزارة المالية بزيادة فاتورة استيراد القمح فى الموازنة الجديدة بنحو 12 مليار جنية نظرا لارتفاع أسعار المنتج عالميا.
الواقع يقول إن تحقيق مصر الإكتفاء الذاتي من القمح مرهون بعدة تحديدات، جميعها تحتاج لارادة حقيقية لم تتوافر لأي من الحكومات التي تعاقبت على مصر منذ الخمسينات من القرن الماضى.
أولى تلك التحديات، وجود رغبة حقيقية فى الخلاص من مافيا القمح التى وقفت على مدار السنوات الماضية سدا منيعا أمام كل خطوات التوسع في زراعة القمح، حفاظا على ما تجنيه من ثروات خرافية سنوية من أرباح والعمولات، على حساب بقاء مصر رهينة الخارج، وهو القرار الذى أرى فى صلابة وقوة النظام الحالي الحاكم فى مصر فرصة لتحقيقة.
اما ثانى تلك التحديات، فتتلخص فى ضرورة اقتراب الحكومة بجدية من مشكلات المزارعين، والتعرف على المعوقات التى تجعلهم ينصرفون عن زراعة القمح، وعلى الرغم من تأكيد تقرير صادر عن مركز دعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، على انتهاء الحكومة بالفعل من دراسة بهذا الصدد، إلا أن كل ما ورد بها يبقى فى خانة الأمنيات المرهونة بعمل جاد وإرادة تحقق على الأرض.
اما ثالث التحديدات فتتلخص في امكانية نجاح الحكومة في طرح سعر سنوى عادل للقمح المحلي، يعود بمردود قيم يشعر الفلاح بقيمة منتجه، وهو ما حاولت الحكومة تطبيقه بشكل جيد نسبيا خلال السنوات الأخيرة، بعد أن حددت سعر شراء أردب القمح في العام الماضى بين 800 و820 جنيها، بزيادة نحو 15% عن سعر التوريد فى عام 2020، ثم عادت ورفعت سعر التوريد فى الموسم الحالى إلى 885 جنيها مصريا.
كما تفرض تحديات الرغبة في تقليص الفجوة الكبيرة بين المنتج المحلى المحدود واحتياجات البلاد الضخمة من القمح، ضرورة إضافة مساحات جديدة إلى البقعة الزراعة المنزرعة بالقمح، وعلى الرغم من وجود معلومات تؤكد وجود توجه لإضافة 3.5 مليون فدان جديدة خلال السنوات ال 3 القادمة، ضمن خطة شاملة تستهدف إضافة 5 مليون فدان جديدة للمساحات المنزرعة بالقمح، إلا أن ذلك يظل أيضا مجرد أمنيات مصحوبة بالدعوات إلى أن تتحقق.
تحديات تحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح تتطلب من الحكومة أيضا ضرورة الإعتماد على سلالات جديد من التقاوى بأسعار مدعومة، تمكن المزارع من تحقيق إنتاجية أكبر فى كل الأراضي على إختلاف طبيعتها، مع التوسع فى تنمية المصادر غير التقليدية للمياه، مثل تحلية مياه البحر وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي، في ظل استهلاك الإنتاج الزراعى الحالى لنحو 85% من نصيب مصر من مياه النيل، مع تطوير الهدف من المشروع القومى لتطوير وتحديث الصوامع، للوصول بالسعة التخزينية إلى 20 مليون طن بدلا من 4.5 مليون طن، لتقليل معدلات الفاقد وصيانة أمن مصر الغذائي.
الواقع يقول أن تدبير احتياجات مصر الكاملة من القمح المحلى خلال عام أو عامين يعد حلما صعب المنال، غير أن السياسات التى تنتهجها الحكومة قد تحقق الاكتفاء الكامل خلال 5 سنوات، فى حالة وجود إرادة لتطبيقها على أرض الواقع.. أتمنى.