العيد والقرية من زمن فات!
لم يعد الريف كما كان، ولم تعد القرية كما كانت.. ذهبت الدار ذات الطوب اللبنى أو النيئ أو الأخضر وحل محلها البيت الاسمنتى المسلح ذو الطوب الأحمر.. معظم القرى صارت مثل أى منطقة عشوائية في أطراف القاهرة.. والسبب استبدال كل البيوت القديمة ببيوت أسمنتية، وفي نفس الوقت لم يصاحبها أي تخطيط جديد للشوارع والحواري أو تصميم معماري يراعي طبيعة المكان والبيئة.. لم نجد نموذج حسن فتحي المعماري بقبابه وشكله مثلا أو استخدامه لأدوات ومفردات البيئة في تشييده للبيوت حتى بالأسمنت والطوب الأحمر..
غابت أو تهدمت الأفران البلدية في ركن الدار القديمة واستبدلت في أحسن الأحوال بافران البوتجاز.. العيش الفلاحى تم استبداله بعيش الطابونة مثل المدينة، لم تعد هناك أصواتا للديوك مع أذان الفجر، الفراخ البلدى ذهبت مع كل ما هو مندثر، وحلت مكانها الفراخ البيضاء ذات الطعم المعدوم.. كل شيء هنا صورة باهتة مما هو في المدينة، الجبن القريش أو اللبن الطازج تم استبداله بجبن العلب الكرتون ذات الأسماء الرنانة واللبن أصبح أكياسا معبئة تأتي من مصانع القاهرة..
إيه اللي حصل؟ سألت أحد أقاربي فابتسم قائلا: يعنى انتو اللى عاوزين تعيشوا لوحدكم؟! طلبت قطعة جبن قديم وشوية مش ورغيف عيش فلاحي.. إبتسم قريبى قائلا: إنت قديم قوى!
لم أعد أشاهد إلا نادرا من يخرج في شقشقة النهار وهو يجر ماشيته إلى الغيط.. الرى يتم بالموتور والسولار وأصبحت السواقى القديمة مجرد أثر تتندر عليه الأجيال الجديدة، فلم تعد مشاهد الجاموسة او البقرة وهى تقضى يومها في جر الساقية.. ولم يعد هناك أطفال يقضون يومهم بجوار الساقية كى يحفزوا البقرة على الدوران.. الوقت كله لألعاب الموبايل، ولم تعد الساقيه تدورو ولا أثر لصوت تدفق المياه من القواديس، وإن دارت لن تصعد المياه لآن البئر القديم جف أو ابتعدت مياهه واستعصت على جهد الثور!
مذاق مختلف
لم يعد هناك المحراث القديم والبقرة التي تجره، وتم استبداله بالجرار الذى يحرث فدانا في لمح البصر.. أين أنتي أيتها الأيام القديمة؟! كانت ليالي الشتاء هنا لها طعم.. الالتفاف حول المنقد حيث الدفء الذى يبدد برد الشتاء القارس وأكواب الشاي التي تصب من براد مدفون في قلب قطع الخشب المتقدة حتى استوى على مهل، وتدعو رائحته وأبخرته الشاربين قبل صبه في أكواب صغيرة، تشرب منها أكثر من كوب حتى تعدل المزاج فلم أذق مثلها أبدا شرقا أوغربا..
كانت الحكاوى والحكايات تنافس الشاي في مذاقها والضحكات تقترب من عنان السماء، كان وسط الدار ملتقى الاهل والأقارب حتى التاسعة مساء على أقصى تقدير ليذهب بعدها الجميع للنوم على ظهر فرن ليكون المرقد مفترشا بالدفء وملتحفا بدفء الحمل الصوف او اللحاف القطنى، أو سرير مفترش بالونس والدفء.
وفي الصيف كانت المصطبة أمام كل دار هي الملتقى والاستراحة للمارين.. لا تجد هنا باب دار مغلق والطبلية ترحب بالقادمين وقت العشاء ومازالت جملة أمى التي انتقلت معها إلى المدينة حيث الأبواب المغلقة ترن في أذني: ربنا يبعت ضيف واللقمة بتنادى اكالها. وحين أرد عليها يعنى الضيف يأخذ نصيب مين؟ ترد بابتسامة: يأخذ نصيبى.. ياعبيط الضيف بييجى برزقه!
في العيد لم أجد مثل هذا المشهد للخارجين من صلاة العيد.. لم يكن هناك إلا مسجدا واحدا يأتي إليه كل أهل القرية.. الآن أصبحت المساجد والزوايا الكثيرة سببا في عدم تجمع أهل القرية على الأقل في صلاة الجمعة أو الأعياد.. أول الخارجين من صلاة العيد يقف أمام المسجد ليقف بجواره الخارج بعده بعد أن يسلم عليه ويتكرر المشهد.. الخارج من المسجد يسلم على كل الواقفين ويقف بجوارهم ليمتد الطابور حتى يضم كل الخارجين من المسجد ولايجرؤ أى متخاصمين على عدم السلام على بعضهما في هذا الطابور الذى سميته طابور الصلح والمحبة.. فقد كان هذا الاصطفاف فرصة للتصالح الاجبارى ويقتل بإستمرار تدخل الشيطان في تأجيج الخصام..
كعك وبسكويت وقرص
وبعدها يتجه الجميع إلى المقابر لقراءة الفاتحة على اهالينا السابقين اللى الآخرة، وعند وصولهم تكون النساء قد سبقتهن إلى قراءة الفاتحة وإخراج الرحمة من قرص وحبات الفاكهة.. وتتركن المقابر للرجال قبل أن يخرجوا من المسجد..
ولآن قريتى كانت مقسمة في الماضى إلى ناحيتين، القبلية والبحرية، وكل ناحية تضم عدد من العائلات، يكون المشهد التالى بعد الخروج من المقابر.. يخرج أهل الناحية البحرية مسرعين ليصلوا بسرعة إلى دوارهم حتى يستقبلوا أهل الناحية القبلية الذين يصلون ليتناولوا الشاي معهم ويخرج الجميع بعدها إلى دوار الناحية القبلية ليستقبلوا أهل الناحية البحرية ليشربوا الشاي مرة أخرى في دوارهم.. واحيانا تدور بعض أطباق الكعك والبسكويت والترمس.
بعد هذه الزيارات الجماعية تبدأ الزيارات الفردية أو الثنائية أو الثلاثية إلى الأقارب.. حيث العيدية إن وجدت ويلتف الجميع حول أطباق الكعك والبسكويت والترمس والسودانى أو القرص في البيوت التي تخاصم البسكويت والكعك لوجود راحلين منهم إلى الآخرة.
بعد ذلك يلتف الأهل حول الطبلية لتناول الإفطار المكون من الأرز والخضار واللحوم وكفته الأرز ثم الشاي، بعدها يذهب الجميع إلى الغيطان فقد إنتهى العيد في الحادية عشر صباحا على أقصى تقدير!
لم تكن هناك الملاهى أو المراجيح في القرى.. ولم يكن الكل يسهر حتى الصباح ليناموا طوال النهار مثل أهل المدن وكان التليفزيون أيامها بقناتيه الأولى والثانية ينهيان الإرسال في الحادية عشر أو الثانية عشر على أقصى تقدير حتى يكون هناك متسعا للنوم في الليل.
الآن أصبحت القرية أثرا من زمن ولى، لم يعد الريف ريفا ولم تعد القرية قرية ولم يعد الفلاح فلاحا.. كل شيء ذهب وحل مكانه كل ما هو مسخ من مدينة شائهة!
YOUSRIELSAID@YAHOO.COM