نبوءة جمال حمدان عن الإسلام السياسي
العباقرة لا يموتونَ، وإنْ رحلتْ أجسادُهم؛ فالسيرةُ –كما قالَ الأقدمونَ- أطولُ من العُمر، وما أكثرَ مَنْ رحلوا صغارًا، ولكن أعمالهم خلدتهم عقودًا وقرونًا، ولعلَّ الدكتور جمال حمدان واحدٌ من هؤلاءِ العباقرة الأفذاذِ الذين كُتبَ لهم الخلودُ رغم الرحيل قبل 29 عامًا بالتمام والكمال، حيث حلتْ ذكراه في السابعَ عشرَ من الشهر الجاري.
29 عامًا لم تكفِ لنسيان مُنجزات العالم المصرىِّ الكبير الدكتور جمال حمدان في الجغرافيا والتاريخ والتنظير السياسي واستشرافِ المستقبل وقراءته كأنَّه يراه رأيَ العين، أو يطالعُه مِن سِفرٍ مفتوحٍ، وهذا شأنُ نوابغِ البشر.. غادر جمال حمدانُ، الذي عاش بين عامى 1928 – 1993 دُنيانا غدرًا قبلَ ما يقربُ من ثلاثة عقود، ولكن لا تزالُ كتبُه وأبحاثه ومقالاته وآراؤه وأفكارُه ونبوؤاتُه شاهدةً على عبقريته الفذَّةِ والاستثنائيةِ التي لا تتكررُ كثيرًا.
مستقبل الإسلام السياسي
وبعيدًا عنْ مؤلفاتِه الإبداعيةِ في الجُغرافيا، باعتبارِه أحدَ أعلامِها العِظام، وبعيدًا عن تراثه الذي بلغ 29 كتابًا و79 بحثًا، وبعيدًا عنْ طبيعةِ الحياة الخشنةِ التي فرضَها على نفسِه في مسكنِه بمنطقة "الدقى" بالجيزة حتى ماتَ في ظروفٍ لا تزالُ غامضةً، أو أريدَ لها أنْ تبقى غامضة، وبعيدًا عنْ المناصبِ الرفيعةِ التي زهدَها وتركَها، عنْ طيبِ خاطرٍ، للمُتكالبينَ والمُشتاقينَ الذين يتساوى حضورُهم مع غيابِهم.. نتوقفُ قليلًا مع رأي الدكتور جمال حمدان لواقعِ الإسلام السياسي في زمنه، ثم استشرافه للمستقبل الذي نعيشُ نحنُ فيه، ونشهدُ على صِدق الحَدَسِ وصَواب التوقُّع.
في مذكراته التي نشرها شقيقُه بعد وفاتِه بسنواتٍ غير قليلة.. قدَّمَ جمال حمدان، رحمَه اللهُ، قراءةً دقيقةً وعميقة واستشرافًا مدهشًا لمستقبل ما يُسمى الإسلام السياسي، الذي فكَّكَ دولًا، وأسقطَ أنظمة، وأثار فوضي، ونشر إرهابًا، وأراق دماءً، واغتالَ أبرياءً، وعمَّمَ جهلًا، وأنكر علمًا، وخلق تشكيكًا حول الدين الخاتم، وأخرجَ أجيالًا من الملاحدة ومُنكري علاقة الأرض بالسماء، وأظهرَ فسادًا لا تخطئه العينُ في البرِّ والبحرِ!
اعتبرَ جمال حمدان قبلَ أكثرَ من ثلاثين عامًا، وللرقم هنا دلالتُه، الإسلام السياسي تعبيرًا عن مرض نفسىٍّ وعقلىٍّ، مؤكدًا أنه لو كانَ لدى الإسلامِ السياسىِّ ذرةُ إحساسٍ بالواقعٍ المتدني المُتحجر لانتحرَ. كما اعتبرَ الجماعاتِ الدينيةَ المتشددةً وباءً دوريًا يصيبُ العالمَ الإسلامىَّ في فتراتِ الضعف السياسىِّ!!
صاحبُ موسوعة وصفُ مصر كان يؤمنُ إيمانًا جازمًا بأنَّ معظم المسلمينَ تحولوا إلى عبءٍ ثقيلٍ على الإسلام، وأصبحوا معاولَ هدمٍ للدينِ الخاتم، بعدما ابتعدوا عن صراطِه المستقيم، مثلما كان مؤمنًا بأن العالمُ الإسلامىُّ حقيقة جُغرافية، ولكنه يبقى دائمًا وأبدًا خُرافة سياسية!
أثبتتْ الأيامُ والشهورُ والسنونَ التي تلتْ وفاةَ جمال حمدان أنَّ تسييسَ الدين، بشكلٍ عامٍ، سواءٌ من جماعاتِ السلاح والدم، أو من مجموعاتِ الدُّهاةِ والمكر والعمائم، وضَعَه في موضع الاشتباهِ؛ مما دفعَ قطاعاتٍ واسعةً من المراقبين في الشرق والغرب، إلى النظرِ إلى الإسلام باعتبارِه دينًا يتساهلُ مع العنف، وفي نظرِ البعض يُجسِّده، على خلافِ الحقيقةِ الصادقةِ الساطعةِ، ولو كرهَ الكارهونَ وأنكرَ المنافقونَ وراوغ المرجفونَ!
قتل وإنغلاق الفكر
على الشاطيءِ الآخر من النهر، وأمامَ التحدياتِ الجسيمةِ التي فرضتْها جماعات الدم والعنفِ والإرهابِ والتشدُّدِ والتطرُّف والشطط على الإسلامِ والمسلمينَ بشكلٍ خاصٍ، وعلى العالم بشكلٍ عامٍ، فإنَّ المؤسساتِ الإسلامية التي تحظى بتوقيرٍ وافرٍ لتعليمها الفقهي – قبلَ زمن جمال حمدان، وفي زمنه، وبعدَ رحيله، فشلت فشلًا ذريعًا في معالجة هذه التحديات حتى الآن. ويفاقمُ الأزمةَ أنَّ الفكرَ السائدَ في هذه المؤسَّسات تشكَّل من تراث القرون العشرة الماضية، وهي الفترة التي غابت فيها أيَّة ضغوطٍ اجتماعيةٍ تدفعُ نحوَ التغيير مثل تلكَ التي واجهتْها المؤسساتُ الدينية الغربية، فكانت المحصلة النهائية أنَّ أكبر المؤسَّساتِ الإسلاميةِ، وأغناها، وأبرزَها تدور في مجالٍ فكريٍ لم يتغيَّر كثيرًا في القرون الثلاثة الأخيرة، وتخشى فكرة التغيير والتجديد والاجتهاد، وتميل إلى الركون والجمود، ورفع شعار: "ليسَ في الإمكان أبدعُ مما كانَ"!
لقد دفعتْ دولٌ إسلاميةٌ كبيرةٌ وكثيرةٌ، ولا تزال تدفع، ومن بينها: مصر، ثمنًا باهظَا وجسيمًا للوحش الكاسر المتجسد في الإسلام السياسي، الذي تنبأ بشروره جمال حمدان، يتمثلُ في نشر ثقافةِ القتل وانغلاق الفكر وقهرِ العقل وكسر المنطق ودهسِ الحقيقةِ، وكلُّ ذلك قادَ في النهاية إلى موجاتٍ متلاطمة من الإلحادِ والخروج من دين الله أفواجًا والتجرؤ عليه في وضح النهار، وعبرَ منصَّاتِ التواصُل الاجتماعي واسعةِ الانتشار!
فشلَ الإسلام السياسي، خلال عقود مُمتدة ولا يزالُ، في إيجاد أرضيةٍ مشتركة بين الإسلام والحداثة، ليسَ على مستوى مبادئ الإيمان، أو الطقوسِ، أو القيمِ المرتبطةِ بالدين، وإنَّما على مستوى الأدوارِ السياسية، والاجتماعية، والتشريعية التي نهض بها الإسلامُ في المجتمع، تلكَ الأدوارُ التي يعتقدُ الكثيرون أنَّها جزءٌ لا يتجزأ من جوهر الدين.
اقتنع جمال حمدان بأنَّ هدفَ الإسلاميين الإرهابيين هو حُكم الجهلِ للعلم، وأنهم ليس لديهم ما يخسرونه، فإما أنْ يضعَهم المجتمعُ في مكانةٍ مقبولةٍ، ترضى غرورَهم، أو فليذهبْ الجميعُ إلى الجحيم تحتَ ستارِ الدين، وكانت حكمته البليغة أنه "يجبُ شنقُ آخرِ عضوِ بالجماعاتِ الإسلامية بأمعاءِ آخرِ إسرائيلىِّ في فلسطين"، وهو ما لم يحدثْ بعدُ، ولن يحدثَ غالبًا!
ربما يُمنِّي البعضُ، ومن بينهم مراقبون ومفكرون وباحثون أكابرُ، أنفسَهم بأفولِ شمسِ الإسلامِ السياسيِّ الحارقة القاتلة أفولًا بلا عودة، ويراهنون على ذلك مُطمئنين، ولكن هذا ليس صحيحًا في المطلق؛ لا سيما أنَّ هناك قوى عالمية لا يروقُ لها ذلك، بعدما وجدتْ في الإسلام السياسي وعقولِه وقياداتِه وأفرادِه ومرتزقته وعناصرِه الباحثة عن المال في المقام الأول، سلاحًا رادعًا وقويًا لتحقيق أطماعها وتوسعاتها المشروعة.
باختصار.. لم يعد الإسلام السياسي مشروعًا لأصحابه، هذا عهد ولَّى وأدبرَ، ولكنَّه أضحى رهانًا مضمونًا للاستعماريين القدامي لإعادة فتوحاتِهم واستعادِة أمجادِهم الزائلة بأقلِّ الخسائر، بل وهم جالسونَ في مكاتبهم المُكيفة ويُدخنون السيجار الكوبي ويضاجعون النساءَ، ويتضاحكون على أمة تصف نفسها زورًا وبهتانًا وإثمًا مبينًا، بأنها "خبر أمة أخرجت للناس"، رغم أنها صارتْ أبعد ما تكونُ عن هذا الوصفِ القرآني العظيم؛ وهى تطوراتُ ربما كانت أبعدَ من المستقبل الظلامي الذي صاغه جمال حمدان لـ الإسلام السياسي، والذي يزداد توحشًا يومًا بعد يوم، ويتحور، كما وباء كورونا، ليُخرج على فتراتٍ بنسخ جديدة أشدًّ غلظةً وقسوةً..