رئيس التحرير
عصام كامل

مراقد آل البيت ومشاهد الصحابة في حضن الإهمال (15)

تناولنا في المقال السابق، ما فعله قرار، تُّخِذ في لحظة طيْش، وإهمال، بإزالة "حوش الصوفية"، والتي تتجاوز مساحتها فدانين من الأرض، من أجل شق شارع بين المقابر المقابلة لباب النصر، بالجمالية؛ الأمر الذي أسفر عن تدمير ونسف قبور ومراقد عددها يتجاوز الـ 14، من مشاهير وكبار الأولياء، والعلماء العاملين، الذين نفخر بأنهم رقدوا في ثرى الكنانة. اليوم، نتناول جانبًا من سير حياة بعض ضحايا ذلك القرار غير المدروس.

 

مقام تقي الدين المقريزي 

 

أحد أهم الضحايا هو الشيخ تقي الدين أحمد بن على المقريزي، أبرز مؤرخي عصر المماليك، وعلى وجه التحديد في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجريين، تلك الفترة التي تعد قلب العصر الذهبي للكتابة التاريخية في مصر والشام في العصور الوسطى.

 

وهو الذي جمع ما بين أنواع التأليف التاريخي المختلفة، والذي يكاد المتخصصون في تاريخ العصور الوسطى العربية يجمعون على أنه شيخ مؤرخي مصر وكبيرهم، وأن أعماله تمثل قمة النضج لمدرسة التأريخ عند العرب والمسلمين.

 

وهو مصري من أب من أصل لبناني، وأم قاهرية، ولد في حارة برجوان، بقسم الجمالية، في القاهرة القديمة والتي تنسب إلى أحد رجال الدولة الفاطمية في عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، وكان مولد المقريزي في سنة 766 هـجرية الموافقة لسنة 1364 ميلادية، وفي هذه الحارة نشأ وتربى وتعلم، وكان المقريزي يعتز بانتسابه إلى حارته، فيقول في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار": "وما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة".

 

ورغم حب المقريزي لمصر التي قال عنها: "كانت مصر هي مسقط رأسي وملعب أترابي ومجمع ناسي ومغنى عشيرتي وحاميتي وموطن خاصتي وعامتي وجوي الذي ربي جناحي في وكره وعش مأربي"، ورغم المناصب التي تقلدها في مصر فقد عاش قسمًا من حياته متنقلًا بين القاهرة ودمشق ومكة هربًا من الاضطراب السياسي أحيانًا وجريًا وراء سبل العيش أو جمع المعارف أحيانًا أخرى.

 

المذهب الشافعي

 

وقد كانت دراسة أحمد بن على المقريزي دراسة دينية مثل أهل العلم في عصره، وبعد أن درس المقريزي علوم الدين أصبح شافعي المذهب، بعد أن تنقل بين مذهبي جديه لأبيه وأمه، فقد كان جده لأبيه حنبليا وجده لأمه حنفيًّا، وتتلمذ هو على يدي أبرز فقهاء المالكية في عصره عبد الرحمن ابن خلدون، لكنه في النهاية اختار الشافعية مذهبًا له، وتفقه فيه باعتبارها المذهب السائد بين أهل مصر.

 

وقد تولى الرجل مناصب التدريس والحسبة والقضاء والخطابة وكتابة الوثائق الرسمية للدولة، لكن دوره كمؤرخ كان الأهم والسبب وراء شهرته التي عبرت الزمان والمكان، فقد التحق كوالده بالعمل في ديوان الإنشاء كأحد الكتاب به، فاتصل من خلال عمله بكبار رجال الدولة، لكن المقريزي لم يستمر في وظيفة الكتابة بديوان الإنشاء طويلًا حيث انتقل للعمل في سلك القضاء فأصبح نائبًا من نواب قاضى القضاة الشافعي.. 

 

كما تولى وظيفة محتسب القاهرة والوجه البحري في زمن السلطان الظاهر برقوق، وتنقل المقريزي ما بين القاهرة ودمشق ومكة، واشتغل بتدريس الحديث النبوي في المدرسة المؤيدية بالقاهرة والمدرستين الإقبالية والأشرفية بدمشق، كما تولى إقامة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي بالقاهرة.

تلميذ ابن خلدون

 

والمقريزي أبرز تلاميذ مدرسة عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ ومؤسس علم العمران، علم الاجتماع بلغتنا المعاصرة، وكان المقريزي التلميذ الذي فاق أستاذه وتفوق عليه. وتوفى المقريزي بالقاهرة في حارة برجوان التي ولد بها، سنة 845 هجرية الموافقة لسنة 1442 ميلادية، وقد قارب على الثمانين من عمره الذي أفناه في الدرس والتأليف.

 

جدير بالإشارة أن مصر تسلمت شعلة تنصيب عاصمتها القاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية خلفا للعاصمة التونسية، وذلك في الاحتفال الذي أقامته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بمدينة الثقافة في تونس.

 

 

ويهدف برنامج عواصم الثقافة الإسلامية إلى توطيد أواصر العلاقات بين الشعوب التي تتشارك في الكثير من المفردات والعناصر من خلال إقامة حوار إبداعي بينها وتعزيز مجالات التواصل الفكري بين أبناء الأمة الإسلامية، كما يعمل على إبراز مضامين التراث الزاخر بالمفاهيم التي تدعو إلى التسامح والتعايش أمام العالم وتقديم صورة حقيقية عن الحضارة الإسلامية العريقة. فهل تستقبل مصر هذا الحدث الهائل بتلك الطريقة المذرية في إهمال رموز الثقافة والعلم والدين، وهدم مشاهدهم، ومزاراتهم؟!

الجريدة الرسمية