حكاية أعظم مدرب كرة قدم
على الطرف الأيسر لملعب كرة القدم الترابى بقرية نائية يصر المدرب على أن يصحبنا -نحن اللاعبين- إلى غرفة الملابس قبل المباراة لكى يمنحنا خطة جهنمية تمكننا من الفوز. لم تكن هناك غرفة ملابس، ولكن المدرب يسمى الجانب الأيسر «غرفة ملابس».. يصر المدرب على إلزامنا الصمت لكي نركز على ما سيقوله لنا من أجل تحقيق الفوز.
ينظر مليًّا إلى السماء كنظرة القذافى طوال حياته، ثم يمسح شفتيه بلسانه، ثم ينظر مرة أخرى إلى أعلى، ثم يتصنع أنه سيبدأ، ونحن فى صمت رهيب ننتظر الخطة. يبدأ بالحديث على أن ما سيقوله لن يكرره، وأن غير الملتزم سيخرج من الملعب فورًا، وأن ما سيقوله خلاصة خبرات السنين، وكان الرجل يستمد أهميته من أنه أحد الأفراد القلائل فى المحافظة الذين يشاهدون مباريات الزمالك في الاستاد.. والاستاد هنا هو «استاد القاهرة».
بعد محاضرة فى الفهم والاستيعاب وقدراته العظيمة يتوقف عن الكلام.. ثم يقول بهدوء: بلدكم أمانة في أعناقكم.. ساعة واحدة هى مدة المباراة -كان الشوط نصف ساعة- تفصل بينكم وبين المجد، والمجد هنا هو مجد بلدكم.. ثم يتساءل: هل تضيعون بلدكم؟ ينظر الرجل إلى الجماهير المتراصة على ضفتى الملعب جلوسًا على الأرض، ثم يقول: كل فلاح فى هذا البلد أوكل إليكم المهمة المقدسة.. مهمة رفع اسم البلد عاليًا.
خطة المدرب
بعد هذه المحاضرة النفسية التى تشعل النيران فى أجسادنا النحيلة ننتظر من الرجل أن يكلفنا بالمهام الصعبة.. مهام الدفاع عن سمعة البلد، غير أنه يعود مرة أخرى إلى الصمت الرهيب والنظر مليًّا إلى السماء. ننتظر بفارغ الصبر ماذا سيقول لنا.. يعود إلى مص شفتيه والتنهد طويلًا، ثم يقول: أعرف أنكم رجال، ولا تنسون ما قدمه هذا البلد لكم.. ألم يكن هذا الملعب مستنقعًا وردمه الفلاحون من أجلكم؟ هل بخل أحد عليكم؟.. انظروا إلى هؤلاء البسطاء الذين تركوا حقولهم ومواشيهم من أجل تشجيعكم!
ونحن على الصمت متعاهدون، ننتظر بفارغ الصبر خطة اليوم التى بها سنحصد نقاط المباراة، غير أن المدرب يكمل حديثه: لا تنسوا أن الفريق الذى سنلعب معه فريق كبير، وله جمهور عنيد، وهذا يمثل ضغطًا عليه أكبر مما تعانون. ركزوا معي جيدا فيما سنفعله. تنحنى رءوسنا سمعًا وطاعة فالرجل سيدلو بدلوه، يبدأ حديثه بصوت خفيض، وكلما خفض صوته انحنينا أكثر، وكأنه يمنحنا كلمة سر الليل فى وحدة عسكرية على الحدود.
يقول الرجل وبثقة: (حارس المرمى ياخد باله.. الدفاع يكون حذر.. خط الوسط يتماسك.. الهجوم يخلص). يعيد خطته مرة أخرى، وثالثة، ثم يقول: لو التزمتم بما قلت لا شك سنفوز! ندخل إلى الملعب، ويخرج المدرب إلى خارجه ماضيًا فى خيلاء، وسط تشجيع من أهالى القرية للمدرب وليس لنا.. يجتمع بنا كابتن الفريق لنقرأ الفاتحة.. نقرؤها.
يقول الكابتن: يا جماعة لا بد أن نلتزم بما قاله المدرب، فنحن محظوظون بمدرب من العيار الثقيل، ولو التزمنا بما قال سنصل إلى الدور القادم. ثم يعيد علينا الخطة، ويصر على أن يسأل الجميع فردًا فردًا عن مهامه. وكنا نردد: (الدفاع يكون حذرًا.. وخط الوسط يتماسك.. والهجوم يخلص.. والحارس ياخد باله).
تبدأ المباراة ونصف الفريق حفاة، والنصف الآخر من الطبقة المحظوظة تنتعل «كاوتش باتا الأبيض»، وكان سعره يتعدى القروش العشرة.. كأننا أسود فى المضمار، نأكل تراب الاستاد الذى كان قديمًا مستنقعًا. فى الأغلب الأعم كنا نفوز، ونصل إلى النهائيات من أجل رفع اسم البلد عاليًا، وتباهى أهالينا بين القرى المجاورة.. كانت قريتنا هي الوطن الذى نزود عنه ومن أجله.. (الحارس ياخد باله.. والدفاع يصحصح.. وخط الوسط يتماسك.. والهجوم يخلص)!
تذكرت مواقف مدربنا العظيم وأنا أشاهد مباراة مصر والسنغال، فلو التزم أبناء فريقنا القومى بخطة مدرب قريتنا النائية، وانتبه الحارس، وصحصح الدفاع، وتماسك خط الوسط، وترجم الهجوم جهود زملائه، بالتأكيد سنرفع اسم "البلد" عاليًا.