اللهم إنى صائم!
نعم الشهور واحدة، والأيام والساعات والدقائق محددة الآن بالفيمتو ثانية لكن المذاق مختلف عند كل فرد ومكان للدرجة التي يمكننى القول إن لكل إنسان زمانه ولكل مكان سماته التي يخلعها على الزمن، ومصر فريدة كمكان وأهلها المصريون متفردون في خلع سماتهم على كل من يدخل ديارهم.
النيل يمر بالعديد من الدول لكنه هنا ينطق بلغة المصريين ويغنى أناشيدهم ويبوح بأسراره لهم دون غيرهم فيقدسوه ويشيدون منه حضارات متتالية، والديانات السماوية نشأت في مصر أو مرت بها أو سكنت فيها.. وفي كل الأحوال تكتسب طعما ومذاقا وفكرا بعد انصهارها في بوتقتها الحضارية لتخرج للعالم بمظهر وفهم وسلوك يختلف عن باقى العالم.
مثلا اليهودية والمسيحية في مصر ذات سمات لمعتنقيها تختلف عن نظرائهم في العالم كله ووصل الأمر إلى تبلورها في شكل مذاهب ينتمى لها الكثيرون في العالم، والإسلام دخل مصر مثلما دخل العديد من البلدان لكنه لم يسكن مصر ولكن سكن عقول وقلوب المصريين ليكون في النهاية ذو خصائص تميز المسلمين هنا عن باقي بلاد العالم، لأنه ببساطة تأثر بالسمات الحضارية للمصريين وبفكرهم وسماحتهم ووسطيتهم وثقافتهم المترسخة في جيناتهم عبر آلاف السنين.
وأكتفي هنا فقط بالإشارة السريعة ونحن على أعتاب شهر رمضان الكريم لنرى الفارق بين هذا الشهر في مصر وأى بقعة في العالم .. في بلدان العالم الاسلامى يبدأ رمضان عندهم برؤية هلاله لكن في مصر الأمر مختلف.. قبل رؤية الهلال بأسابيع يبدأ الكل يخلق فرحته ويستعد لها بمقدم هذا الشهر.. صحيح الأمر اختلف بمرور الزمن ومع الأزمات لكن لا شيء يغلب المصريين.
سمات المصريين
والمسألة ليست مظاهر خارجية فحسب لكن المهم أن لكل مظهر دلالته، والمصريون لا يعرف أى مخلوق كلمة السر عندهم.. الأزمات الاقتصادية وحتى كورونا لم تمنع موائد الرحمن، وإن تغير شكلها ومكانها أحيانا، والقضية ليست في حجمها ومكانها وإن تنوعت في السنوات الأخيرة من البذخ الشديد إلى المتوسط.. لكن التجمع على الطعام أو القعدة واللمة هي إحدى سمات المصريين منذ القدم في حياتهم اليومية أو أعيادهم ومناسباتهم..
ففي القرى وحتى سنوات قريبة كان الفلاحون يفطرون او يتناولون العشاء أمام منازلهم أو فاتحين أبوابها ليراهم المار والعابر أمامهم حتى يعزمونه على أكلهم و"كباية شاى" وإنعكس ذلك في أمثالهم الشعبية ومأثوراته حيث "لقمة هنية تكفى ميه" و"بصلة المحب خروف"، وفي المدينة بدلا من مصطبة الريف يكون المقهى في الأحياء الشعبية أوالكافية أو النادى أو غيرها بدائل أخرى.. تعددت الأشكال والهدف واحد هو "اللمة".
ورغم الأزمات الاقتصادية التي تمر على المصريين يكون لرمضان والأعياد والمناسبات سلوك مختلف في الفرحة والطعام.. مثلا كل أسرة تدبر من ميزانياتها طوال العام لهذا الشهر، لإقامة الموائد والعزومات ودعوة الأهل والأقارب والأصدقاء.. لماذا؟ لأن المصريين يعشقون "اللمة"!
نعم الأزمات الاقتصادية ألقت بظلالها مؤخرا والغلاء الفاحش كسا الوجوه بحزن في الأسواق، ومع ذلك يشترون بجنيهاتهم القليلة ما يسعدهم ويتغلب عشق الحياة عليهم ويتفننون في صناعة بهجتهم ولو بفانوس صيني أو بكيلو كنافة أو كيلو قطايف أو كوب عرقسوس وتمر هندى أو بكيس مخلل .
لكن ماذا فعل الزمن بالمصريين؟
تندثر أو تتلاشى بعض الظواهر والمهن مثل المسحراتى الذى كان يوقظ الناس ليس للسحور فحسب ولكن يقرب من مشاعر الموجودين وإذا كانت التكنولوجيا لها أوجه سلبية فأعتقد إن أحد مظاهرها الإيجابية هو توحيد مسحراتية الأحياء الشعبية في مسحراتى الوطن الذى تجسد في صورة سيد مكاوى وأشعار العبقرى فؤاد حداد على لسان مسحراتى الوطن الذى أخذ على عاتقه مهمة إيقاظ الوطن وأهله..
ولم يعد الأجر مثل زمان في الأحياء الشعبية بضعه قروش أو حتى جنيهات وإيقاظ الحاج فلان أو الدعوة بنجاح الأولاد وزواج البنات.. الآن الوضع اختلف نحتاج إيقاظ الوطن كله وأهله وتنبيههم من الأخطار المحيطة بنا والدعوة للثبات والعمل.. والأجر لم يعد بعض القروش أو الجنيهات كما كان في الماضى لكن.. الأجر نور.
اصحى يا نايم اصحى وحد الدايم وقول نويت بكرة إن حييت الشهر صايم والفجر قايم اصحى يا نايم وحد الرزاق رمضان كريم. مسحراتى.. منقراتى.. فى طلتى بطبلتى.. من جنب شارع.. لجنب حارة.. كان نجم والع.. زى الشرارة من البخور.. الدنيا حلوة.. والريحة أحلى.. سمعت غنوة.. ورجلى نحله.. فضلت تدور..
مسحراتى الوطن جميعنا في أشد الاحتياج إلى طبلته وصوته الذي يوقظنا جميعا للعمل.
yousrielsaid@yahoo.com