البشرية عانت.. ولن ولم تتعلم!
لابد من قراءة دقيقة لبعض المؤشرات الواضحة عن فيروس كورونا؛ فقد كانت نظرية الوباء القاتل أسيرة كتب التاريخ وأفلام هوليوود، كما كانت مقصورة على كثير من الأبحاث الطبية لفهم سرعة تطور الفيروسات ومدى مناعتها المتجددة تجاه العلاجات وقدرة البكتيريا على الصمود أمام المضادات الحيوية.. لكن هذه النظرية لم تعبر حاجز البحث العلمي إلى نطاق الأمن القومي الواسع؛ فرغم ما واجهه العالم من أوبئة وجائحات عبر التاريخ استمرت القوى العظمى في التعامل مع العدو المرئي تطبيقًا لنظرية السيطرة فقط دون أن تتمكن من تطوير قناعة بضرورة حشد موارد ضخمة لمواجهة عدو غير مرئي كالفيروسات وغيرها.
الوقاية من الأوبئة
ورغم ما قد يبدو من خطورة داهمة لوباء كورونا لكن البشرية عانت فيما مضى جائحات أشد تدميرًا من كورونا؛ ذلك أن الأنفلونزا الإسبانية مثلًا أودت بحياة أكثر من 50 مليون إنسان في العقد الثاني من القرن المنصرم، وهو رقم يتجاوز ضحايا الحرب العالمية الأولى بكثير ناهيك عن ضحايا الطاعون الثالث (1855-1955) والذين تجاوزوا الـ12 مليونًا.. لكن يبقى أن تداعيات كورونا اقتصاديًا واجتماعيًا قد تماثل وربما تتخطى الأثر الذي أحدثته كل الجوائح السابقة حيث لا يعلم إلا الله متى تنقشع هذه الغمة.
وفي كل الأحوال فإن الحقيقة الماثلة أمامنا الآن أن الأمن الصحي بات على رأس أولويات وإستراتيجيات دول عظمى بنفس مستوى اهتمامها بتكنولوجيا الأمن الدفاعي؛ فقد ثبت أن الأنظمة الصحية القائمة حتى في أعتى الدول عجزت عن التعامل الاحتوائي الفوري والحاسم مع كورونا؛ ومن ثم فلا غرابة أن تخرج علينا تقارير مراكز أبحاث أمريكية لتؤكد الحاجة لمزيد من الأمن الصحي على قاعدة ثابتة وقوية وسياسة وقائية استباقية للحماية من الأوبئة فضلًا عن تحقيق الصمود والمرونة اللازمة فوق ما تسمح به السياسات المتبعة الآن القائمة على رد الفعل فقط.
لقد خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية بمكاسب جعلتها قوى عظمى؛ فنيران الحرب لم تطل أراضيها.. لكن لا يخالجنى شك أن من سيخرج أولًا من جائحة كورونا فسوف يتمكن من تحقيق نقاط هائلة على سلم السيطرة على النظام العالمي.. والصين هي أكبر المرشحين للعب دور أكبر قد يغير التحالفات وموازين القوى العالمية؛ ذلك أن لديها إمكانيات إنتاجية هائلة سوف تحتاجها دول منكوبة لا تزال تواجه هذا الوباء وتداعياته.. سوف تتبدل تحالفات وتولد تجمعات اقتصادية وسياسية جديدة.
جائحة كورونا شأنها شأن الجوائح كافة قد تدفع أيضًا إلى تغييرات تؤثر كثيرًا في مسارات الفكر والفلسفة والدين؛ بحسبان الجوائح عقابًا إلهيا على فساد إنساني وقد شهدت الأفكار الدينية نقاشات كثيرة أفرزت تفسيرات ومدارس أكثر براجماتية جاوزت الحدود القصوى في الخروج على الدين بدلًا من أن تعود إلى رشدها..كما قطعت تلك الأفكار شوطًا كبيرًا في القرن الماضي..
ونأمل أن تدفع كورونا في اتجاه مغاير لتكريس أفكار وأيديولوجيات جديدة تعود بالإنسانية إلى صفائها وتعميق مفاهيم التعاون البشري انطلاقًا من قضايا أساسية مثل مواجهة تغير المناخ ومكافحة الفقر ونقص الغذاء والكوارث الطبيعية.