السبب الحقيقي وراء رفع سعر الفائدة
في قرار يراه بعض المحللين أنه مفاجئ –ولا أراه كذلك مطلقا بل متوقع لمن يراقب حركة الاقتصاد المصري وعلاقاته بالأزمات العالمية وارتفاع التضخم- قررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي رفع سعر الفائدة بمقدار 1% ليصل سعر الفائدة على الإيداع والإقراض إلى 9.25% و10.25%. كما أشارت اللجنة إلى إيمان البنك بـ أهمية مرونة سعر الصرف، بما يعني السماح بتحريك سعر الجنيه مقابل الدولار، بعد ست سنوات من حفاظ البنك المركزي على قيمته رغم تحرير سعر الصرف في 2016. الإشارة التقطتها البنوك مع بدء تعاملاتها، ما أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه ليصل إلى 18.52 جنيهًا مقابل الدولار، ما يعني أنه فقد 15% تقريبًا من سعره.
ورغم التبريرات المتعددة من أن سبب ذلك يرجع إلى تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا التي عمّقت تأثيرات التضخم العالمي على خلفية أزمة سلاسل الإمداد، حيث موجة تضخمية حادة على وشك الارتفاع أكثر فأكثر من ناحية، وشح في العملة الأجنبية، كل ذلك مع تأثير كورونا فكان لازما على البنك المركزي أن يتخذ هذه التدابير، لكني لا أرى أن السبب الحقيقي يرجع لذلك أو على الأقل ليست الحرب السبب الأساس، ولكن يرجع ذلك لعدة عوامل أهمها ملاحظة البنك المركزي لحركة هروب الاستثمارات الطائرة أو غير المقيمة أو ما تسمى بالأموال الساخنة من مصر..
وهذه الاستثمارات تعني أن يأتي المستثمر الأجنبي الذي يكون قد اقترض أموالًا بفائدة منخفضة من الدول الكبرى مثل أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو حتى بماله الخاص، فيضخ ذلك القرض أو المال في الأسواق الناشئة -ومن ضمنها مصر- لشراء أذون وسندات بالعملة المحلية مقابل فائدة مرتفعة. وقد بلغ حجم الاستثمار غير المقيم في سوق السندات المحلية في مصر 28.8 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2021، أو حوالي 56% من احتياطيات النقد الأجنبي وأصول العملات الأجنبية الأخرى للبنك المركزي المصري.
حماية الجنيه
وهذا رقم ضخم جدا ويؤكد خطورة الاعتماد على مثل هذه الاستثمارات في السوق المصرية، وقد بدأ ذلك المستثمر الأجنبي في الهرب بماله من السوق المصرية، وهو أمر معتاد في أوقات الأزمات، خاصة بعد قرار البنك الفيدرالي الأمريكي رفع الفائدة 0.5% للمرة الأولى منذ العام 2018، مما يعني جاذبية أكبر للديون الأمريكية من الديون المصرية.
ومن الملاحظ أن هروب هذه الاستثمارات بدأ قبل الحرب بشهور، ليصل إجمالي تلك الأموال الهاربة خمسة مليارات في الفترة بين سبتمبر وديسمبر الماضيين، ولذلك يحاول البنك المركزي المصري إغراء هؤلاء المستثمرين وغيرهم بالعودة نظرا للمكاسب الكبرى من رفع سعر الفائدة وتخفيض قيمة الجنيه، حيث يمثل تراجع سعر الجنيه عمومًا أمرًا جذابًا لتجار الفائدة من حائزي العملات الأجنبية، الذين يمكن لعملاتهم المحلية، بناءً على السعر المنخفض للجنيه، شراء أوراق الدين المصرية بتكلفة أقل.
وفي المقابل فثبات سعر الجنيه المصري لوقت طويل عند مستوى معين، حتى ولو كان منخفضًا بشكل ينظر إليه باعتباره ناجمًا عن تدخل من البنك المركزي في سعره عبر ضخ النقد الأجنبي في السوق لمساندة الجنيه، يثير ريبة تجار الفائدة. وبالفعل كان الاحتياطي من النقد الأجنبي قد فقد في مارس وأبريل من عام 2020 - بعد تفشي فيروس كورونا- ثمانية مليارات دولار، بسبب محاولة البنك المركزي حماية الجنيه وقتها بضخ الدولار، لكن البنك المركزي الآن ونظرا لهروب الاستثمارات الدولارية وعدم وجود الدولارات الكافية لحماية الجنيه يلجأ إلى التعويم الحقيقي للجنيه وتركه يصارع الأمواج مع الدولار الذي يتفوق بالفعل من دون حماية البنك المركزي للجنيه، وطبع هذا يعقد المشكلة للمصريين من حيث انخفاض حجم مدخراتهم وارتفاع الأسعار الجنوني لارتفاع سعر الدولار الذي يتم به الاستيراد.
ومع ما قام به البنك المركزي من إجراءات يبقى تأثير رفع الفائدة الإيجابي في زيادة جاذبية أوراق الدين المصرية ضعيفًا الآن، بسبب الأولوية القصوى للمستثمرين من تجار الفائدة في أوقات الأزمات العالمية وأوقات التحولات السياسية الكبرى لتجنب المخاطر واللجوء للأسواق المتقدمة، خاصة بعد قرار الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائد كما ذكرنا. وقد يرجع قرار تحرير سعر الصرف بهذه الحدة، بالرغم مما يعنيه من آثار تضخمية كبيرة، إلى أن يكون ممهدًا لاتفاق مع صندوق النقد حول قرض جديد، يتضمن على الأغلب ما يقتضي المزيد من المرونة في سعر الصرف.