غلاء بطعم القهر
قال مرتبي أربعة آلاف جنيه وعندي طفلان بالمدارس، ولم يكن طموحى في يوم من الأيام أن أتملك شقة لأسباب اقتصادية، فأنا أسكن بالإيجار شقة صغيرة يصل إيجارها إلى ألف جنيه.. هكذا قال لى مواطن صالح.
لن أحدثك عن فاتورة الكهرباء، ولا فاتورة الماء، ولا فاتورة الغاز فكلهم يمثلون لأمثالى كابوسا مزعجا انتظره شهريا، رغم كل محاولات التضييق والتوفير، ننام دون تكييف أو مدفأة، ولا نطبخ إلا مرة أسبوعيا أما الشاي والقهوة فهى من المرفهات التي نقترب منها كل حين.
ينتهى الشهر ماليا بالنسبة لأمثالى في الأسبوع الأول منه، ونعيش بقية الشهر على ما ادخرناه من أطعمة رخيصة، ليس من بينها الفول أو الطعمية، بعد أن انتقلا إلى مصاف المرفهين اقتصاديا. ليست المرة ككل مرة، فهذه المرة مُرة كالعلقم، فكيف لك أن تتعايش مع الاكتئاب وانتظار البلاء قبل وقوعه، لا يمكن أن تتصور حجم العذاب الذي أواجهه إذا ما عانى إبني من كحة مفاجئة أوعطسات متتالية أو لا قدر الله من مغص مباغت.
تتلوى أكثر من ابنك، لأنك لا تملك رفاهية الذهاب إلى الأطباء، الذين نزع الله من قلوب معظمهم وازع الرحمة، التي كانت قديما رداءً يغلف مهنتهم ورسالتهم. الحل أن تعالج طفلك بالدعاء وتنتظر القدر المحتوم، لن أحدثك عن الدروس الخصوصية التي أصبحت بديلا لمدرسة غابت في صحراء الجهل الحكومى والتخلف المتعمد.
إنسانية مفقودة
لم نعد ندرس لأبنائنا بالمدارس، مدارس تخلو من المعلم الذي كان قديما يكاد أن يكون رسولا.. غادر الأرض آخر الأنبياء، ولم يعد بيننا رسل ولا أنبياء، ولا حتى بشر يرتدون الإنسانية غلافا على أجسادهم.
تمضى الأيام وأنا مثل كل أب أتفحص الأيام لعلها تأتى بخير أو بمنطق أو بمعقول، لا الخير جاء ولا المنطق ساد ولا المعقول عاد، سلسلة رهيبة من الخوف والعوز والحاجة. نقترب يوما بعد يوم من الموت الذي يبخل علينا ببشرى الزيارة، نعم فالموت راحة ما بعدها راحة والانتحار فكرة ملعونة تسكن الرأس ولا تبرح مساحة التفكير، لا حول ولا قوة إلا بالله.. نستغفرك ونتوب إليك.
رعشة تتراقص بملامح الأب، وشفاه لا تكاد تجد طريقا للثبات، وعينيان جاحظتان تمثلان لوحة للرعب الذي يسكن الفؤاد، رعب من المجهول الذي يطارده كل صباح، دون أن يسلمه إلى مساحة الأمان أو الراحة أو الطمأنينة.
حياة أبعد من الموت، ومسيرة أقرب إلي انتظار المحتوم الذي لا يأتى، وهناك على طرقات القرية البسيطة رجال متشابهون في المعاناة والخوف والرهبة التي لا تعادلها رهبة. وصور الأمل الذي كان يعيش بيننا غابت في ظروف غامضة، غابت بعد ان طاردتها جحافل التجار، تجار كل شيء، تجار الحياة، وتجار الأمان، وتجار كل ما كان قديما سلعة متاحة للجميع.
فقط الهواء الذي لم يرتفع ثمنه، حتى الهواء إذا ما أردت تحريكه في غرفتك، يصبح له ثمن، فالكهرباء التي تدور بها المروحة تدفع به ثمن ذلك فاتورة جبرية قاسية. الغلاء هذه المرة بطعم القهر، لا مهرب منه ولا ملجأ، أنت تسير في الحياة لكى تدفع، وبعدما تدفع فإنك تدفع، تدفع من حياتك، ومن أمان أولادك، ومن رعبك على مستقبلهم المرهون على ما لا تملك.
قديما كنا نتلاقى لندفن أحزاننا بين أفراح الغير، وبعد أن فقد الغير أفراحه، بات معنا يلقى نفس ما نلقى من نيران الغل، نعم أصبحنا تربة خصبة للغل والحقد والحسد، نحسد بعضنا بعضا، نحسد بعضنا على فقرنا، وعلى خضوعنا، وعلى ذلنا.
وإذا مافكرت يوما أن تواجه تلك الأعاصير فلن تجد لك ظهرا ولا ظهيرا، فالكل على نفس الوتيرة، وتيرة السير محفوفا بالغلاء الموحش، والعيش الباهت، ووجوه المحيطين التي تضيف إلى الإحباط يأسا عميقا. وتسمع من هؤلاء الذين يظهرون على التلفاز سياقات خارج العقل والمنطق، وحديث البيض الأورجانيك والبسطرمة ليس لنا عهد بها ولا نعرف كنههها ولا جنسيتها.. نحن قوم غرباء في وطن غريب، وحياة أغرب فالحياة نبض وقد خلت عروقنا منه.. باختصار أصبحنا جثثا تتحرك بلا روح.