فى بيتنا مدمن
جاء صوته المتعب عبر الهاتف راجيا لقائى بمكتبى دون أن يفصح عن السبب، لا أعرف الرجل ولا أعرف ما يعانيه أو سبب طلبه لقائى، حددنا موعدا، ووصل الرجل فى التوقيت المحدد. سبعينى تبدو علامات الزمن عليه، لم تخل مساحة فى وجهه من التجاعيد، بدا متعبا للغاية غير أن ابتسامة الرضا تعلو جبهته بشكل يدعو للاطمئنان والسكينة.
قبل أن أسأله قال بهدوء: أعرف أن وقتكم ليس ملككم، لذا فإننى سأكون محددا للغاية.. لم آت إليك طالبا مصلحة أو خدمة أو تدخل من أجل الحصول على حق مهضوم. أضاف الرجل: عانيت لسنوات طوال مع ابنى الذى تخرج فى كلية الهندسة وألقى به أصحاب السوء فى طريق الإدمان، ومن المرحلة الأولى للإدمان إلى مراحل متأخرة أدركنا أننا أمام خطر كبير.
وقال: عشت أنا وأمه مأساة لا يمكن أن تتصور جحيمها وقسوتها حتى وصلنا إلى هوة سحيقة عندما بدأ الابن يمارس السرقة.. فى البداية سرق ذهب أمه، ثم بدأ يتحول إلى متسول بعد مرحلة طويلة من الاقتراض من أصدقاء الأسرة. تنهد الرجل السبعينى وهو يقول: أنفقنا كل ما نملك على مصحات نفسية، منها ما هو خاضع لمعايير طبية معقولة، ومنها مصحات بير السلم، خاصة أن المصحات الرسمية لا تقبل مريضا يرفض العلاج.
صندوق مكافحة الإدمان
وكان الابن يلح فى طلب العلاج، وبعد الانتهاء من مراحله باهظة الثمن يعود إلى نفس الطريق.. تعطلت حياتنا وتحولت إلى جحيم وخطر محدق بنا، لدرجة أننا كنا نغلق على أنفسنا أبواب غرفتنا خوفا من ارتكابه جريمة، ثم تطور الأمر وبدأنا نقيده بالسلاسل.. آه ما أقساها لحظات.
مرت السنوات تأكل بعضها بعضا، وأنا والأم ننتظر الخلاص من هذا الغول المدمِّر لدرجة أننا تمنينا وفاته ورحيله عن الحياة بعد أن استنفدنا كل محاولات الإصلاح والعلاج بعنا خلالها كل ما نملك. مضت الأيام كئيبة ومملة ومخيفة حتى قرأت بالصدفة عن صندوق مكافحة الإدمان.. تواصلت معهم فى محاولة يائسة، وكانت المفاجأة.. جاء الرد سريعا، وبدأنا رحلة جديدة لم يكن أملنا فيها كبيرا، فقد اعتدنا هذه «المشاوير».. المهم أن نجرب هربا من الإحباط واليأس.
بدأت مرحلة سحب السموم من ابننا، ونجحت هذه المرة، ثم توجهنا إلى واحد من مراكز الصندوق، والمثير أن أول زيارة لنا لتسليم الابن أننا وجدنا صورة مبهرة لمركز يعالج الناس بالمجان. نظر الرجل إلى سقف الغرفة ودموعه تغالبه وهو يقول: مضت فترة العلاج الأولى والتى يمنع فيها زيارة المريض، وأنا وأمه نصلى من أجله ومن أجل كل شاب سقط فى هذا المستنقع الرهيب.
جاء صوت أحد المعالجين عبر الهاتف معلنا بأنه يحق لنا الزيارة، وكانت المفاجأة عندما وجدنا الابن الهزيل، الضعيف، المستسلم على صورة أخرى.. أعترف أننى عندما احتضنه شعرت بأننى قد استعدت أبوتى واستعدت ابنى المهندس المتعلم المهذب. مضينا معه نحو ساعة كاملة من أجمل ساعات العمر.. تحول ابنى إلى فيلسوف يعترف بمرضه معلنا التحدى بقوة لم نرها من قبل.. كنت أنظر إلى وجهه الذى استعاد نضارته وكأننى فى حلم.
خرجت من المركز وأول ما فعلت هو سجودى شكرا لله ودعاءً لهؤلاء الشباب الذين يديرون واحدا من أعظم وأجل وأروع المؤسسات وبالمجان.. شيء لا يصدقه عقل.. أخيرا عاد ابنى إلى الحياة.. لم يكن الأمر يخص شابا فقد حياته وتحول إلى كابوس، بل طال الأمر أسرتنا وجيراننا وصورتنا أمام المجتمع، وكل أحلامنا كآباء، وامتد ليصل إلى هواجسنا حتى بعد الموت.
واختتم حديثه قائلا: مضى أكثر من عام بعد هذا التحول العظيم، ولا يزال ابننا فى المساحة الآمنة.. التحق بعمل مناسب، والأكثر إثارة أنه أصبح ينتمى بكل جوارحه إلى المركز الذى عالجه، يتوجه إليه بين الحين والحين متواصلا مع منقذيه بشكل إنسانى راقٍ.
سألت الرجل وماذا تطلب منا وقد عفا الله عن ابنك؟.. قال: جئت إليكم راجيا أن تلقوا الضوء على هذا الحلم المصرى العظيم، وتبثوا فى نفوس اليائسين طريقًا للنور. ودعت الرجل بعد استئذانه فى نشر القصة، طالبين من القائمين على صندوق مكافحة الإدمان السماح لوسائل الإعلام بإلقاء الضوء على مساحات الأمل التى صنعوها فى معجزة مصرية قد تتحول لتصبح نموذجا عالميا إنسانيا تستفيد منه البشرية كلها.