النوري تراجع أمام ضغط الشبيحة
تجاوز الفنان السوري عباس النوري، السقف المسموح به لانتقاد النظام والحكومة، واندفع مهاجما حزب البعث، المسيطر على الحكم من بداية ستينات القرن الماضي، ورغم أنه من الموالين للنظام، إلا أن هجومه اللاذع في إذاعة محلية أحدث ضجة أعادت إلى الأذهان ارتدادات التصريحات الصادمة التي أدلت بها الفنانة هدى شعراوي، قبل أقل من عام عن المجاعة والفقر، مؤكدة إن "الناس تأكل من حاويات القمامة وانها رأت بنفسها أبًا يبيع ابنه الصغير في أحد أحياء دمشق القديمة كي يتمكن من تأمين الطعام لأولاده الستة الجائعين"..
ولأن هدى شعراوي استغاثت برئيس الجمهورية لنجدة الشعب من الغلاء الفاحش والعوز ومعرفة ما تخفيه عنه الحكومة، أجبرت بعد الضجة التي رافقت تصريحاتها، على مقابلة ثانية لا تتطرق فيها إلى الحكومة أو الرئيس!.
الأمر نفسه تكرر مع عباس النوري، خصوصًا أنه صوب هجومه على حزب البعث الحاكم، ما جعله هدفًا لحملة تهديد ووعيد، فاضطرت زوجته الكاتبة عنود خالد، إلى الاستنجاد بزملائه والجمهور، متمنية تفعيل هاشتاغ "متضامن مع عباس النوري"، واستجاب لها الجمهور بالتفاعل مع الهاشتاغ الذي حل تريند خلال ساعات قليلة، دعمًا لعباس في مواجهة تهديدات الشبيحة كما يطلق عليهم في الشام..
وتضامن أيضًا مع عباس النوري كثير من الفنانين السوريين وكان أبرزهم الفنان أيمن زيدان، الذي استغرب الحملة الشعواء ضد عباس النوري بعد لقائه الإذاعي، وهو أحد الفنانين الكبار وله كل الحق في أن يتحدث عن قراءته السياسية لتاريخ وطنه دون التشكيك في وطنيته، لا سيما أنه تحدث في دمشق وليس خارج البلد، مثلما تحدث من قبل محمد الماغوط وسعد الله ونوس وحنا مينة وممدوح عدوان وكثير من الأدباء، أما سياسة التخوين والإقصاء وتكميم الأفواه فلم تعد مجدية لأنها لا تعبر عن منطق الحياة التي ننشدها على حد تعبيره.
اعتذار عن التصريحات
لم تفد حملة التضامن مع النوري، وزاد ضغط الشبيحة بالتهديد، فاضطرت الإذاعة إلى حذف المقابلة من جميع منصاتها لتهدئة الأمر، خصوصا أن عباس النوري لم يكتف بانتقاد صعوبة الأوضاع المعيشية، والحال المتردي الذي وصل إليه البلد، بل وجّه اتهامًا مباشرًا للسلطة ودورها. كما نبش الماضي القريب أيضًا، واعتبر أن "جميع قرارات حزب البعث الحاكم، خاطئة وشعاراته أصبحت مضحكة جدًا".
وسخر عباس النوري من أن "حزب البعث الذي ينادي من الستينات بتحرير فلسطين، نسي أن الفلسطيني في الأراضي المحتلة يعيش برفاهية وراتبه أكثر 10 أضعاف من المواطن السوري، الذي ما زال يسمع شعارات الصمود والممانعة، وانه منذ سيطر البعث على الحكم لم يعد هناك أي دور للمواطنين، واقتصر الدور بالكامل على الحكومة التي تتبع سياسة الإلغاء، ويمكن أن تحذف اسم مبدع من الوجود لمجرد اختلافه معها في الرأي".
وزاد عباس النوري من انتقاده السلطة، بالتطرق إلى عودة رفعت الأسد إلى الشام، بعد فراره إلى فرنسا منتصف الثمانينات، ورأى النوري، أن "الأسد العم نهب أموال البنك المركزي بعلم شقيقه الرئيس الراحل حافظ الأسد، وهرب بها ما أدى إلى خفض قيمة الليرة السورية وتغيير مجرى الاقتصاد، ولم يتجرأ أحد على مقاضاته رغم الخيانة غير المسبوقة".
كما اعتبر عباس النوري أن "الدولة لم تكن يومًا على حق، ولم تعترف أبدًا أنها ارتكبت أخطاء، مبديًا استغرابه من ترويج أكذوبة أن السوري غير مؤهل لممارسة الحريات، رغم أن الشام كانت بلد الحريات قبل وصول البعث إلى الحكم".
فاقت الضجة التي خلفتها تصريحات عباس النوري، ما رافق تصريحات زميلته هدى شعراوي، فاضطر مثلها إلى التراجع واعتذر صراحة في مقابلة ثانية عبر الإذاعة نفسها، ولم يجد عباس النوري مبررًا لما سيقوله إلا أن "تصريحاته اقتطعت من سياقها"، وهذا غير صحيح لأن كلامه واضح تماما ومترابط ولا مجال لإخراجه من سياقه، خصوصا أن اللقاء كاملًا حقق نسبة متابعة غير مسبوقة.
إعتذر الفنان عباس النوري، عن تصريحاته، موضحًا "لم أقصد إهانة الجيش السوري، وتصريحاتي تم اقتطاعها من سياقها، كلامي كان في سياق تاريخي، وإذا أغضب الكلام العسكريين، فأنا أرفع لهم القبعة وأنحني أمامهم وأقدم اعتذاراتي".
وعلق عباس النوري، على الهجوم الذي تعرض له من قبل حزب البعث ومناصريه: "الهجوم صعب أوصفه، يريدون محاكمتي وشنقي، وجاءتني تهديدات كثيرة يمكن الإطلاع عليها في التواصل الاجتماعي، لكن أيضًا وصلتني رسائل دعم عالية جدا من قامات فنية وثقافية كثيرة.. أنا لست بطلا ولست صاحب مشروع سياسي، بل صاحب مشروع ثقافي يتغلغل ويتجذر في كل تفاصيل الحياة.. التعبير عن مشروعي ليس سهلا، وأنا لا أقول كلام مفقط وبالتالي الاجتزاء مني سهل، على عكس صاحب المشروع السياسي الحريص على الكلام المفقط".