أنا المتهم والقاضي زميلي
أعلم أن كلامي لن يقوم معوجًا، ولن يصحح خطأ، ولن يطهر الوطنية من دنس تجارها، ولن يضع حدًا لعلامات الاستفهام الكثيرة التي أعقبت أحداث ٢٥ يناير، ولن يزيل غموض تلك التناقضات التي تبدأ بكونها ثورة وفقًا للدستور ولملايين المصريين.. وتنتهي بقناعة الملايين أيضًا أنها فوضى وخراب. أعلم كل هذا، لكني مضطر للكتابة من قبيل الفضفضة، خاصة أن الأمر يتعلق بشخصي.
مع انطلاق أحداث يناير 2011 تراجع العديد من القائمين على البرامج التليفزيونية خطوات إلى الوراء، منهم من أوقف برنامجه والتزم الصمت.. ومنهم من ترك القاهرة هاربًا، كانوا ينتظرون ما تسفر عنه الأحداث، فإن كانت الغلبة للثوار انحازوا إليهم، وإن كانت للنظام استمروا في الانحياز له.
بسبب المهنية
في ظل هذا التراجع من البعض قررنا فتح هواء برنامجنا وعزمنا على الاستمرار في التمسك بالمهنية، فكنا أول من استضاف العدد المحدود من الشباب الذي نزل ميدان التحرير، واستضفنا على الهاتف بعض رموز النظام، وفي اليوم التالي زادت أعداد المتظاهرين، فضاعفنا وقت البرنامج لنستوعب أكبر عدد منهم في الإستديو وعلى الهاتف، ثم ضاعفنا ساعات الهواء مرة ثانية مع بداية الساعات الأولى لجمعة الغضب.
وفي ٢ فبراير.. تلقيت إتصالًا من زميلة صحفية، أكدت لي أن ميدان التحرير تسرب إليه مجموعة تعمدت إثارة الفوضى، وأنها تدربت مع أعضاء حركة ٦ أبريل على كيفية إسقاط الأنظمة خارج مصر، فطلبت منها أن تقول ذلك على الهواء، إيمانًا مني بأهمية طرح كل الآراء، وتفعيل شعار الرأي والرأي الآخر الذي ترفعه قنوات تدعي انتهاجها للمهنية، لكن هذا الشعار كان حلالًا على هذه القنوات وحرامًا علينا.
اتهمت ومعي زملاء أفاضل بمعاداة ثورة الشعب على نظام مستبد، وطلبت للمثول أمام لجنة تحقيق في نقابة الصحفيين، ولم أكن أعرف سببًا للتحقيق معي في نقابتي، والموضوع يتعلق بالتليفزيون وليس بالمؤسسة الصحفية التي أنتمي إليها، لكني امتثلت.
المحققون كانوا زملاء لي من مجلس النقابة، ومعهم مستشار جليل من مجلس الدولة أكن له كل الاحترام والتقدير، قلت للجنة إنني مارست المهنية، ودوري هو عرض كل الآراء، ومقتنع بما فعلت، ومستمر فيه، بل ظهرت على الهواء وأعلنت مسئوليتي منفردًا عن تقديم وجهة النظر الأخرى. وجدت تحاملًا من البعض، ورضا من البعض الآخر، ونفس الشيء (التحامل والرضا) من زملاء كانوا خارج قاعة التحقيق.
انتهى التحقيق معي إلى لا شيء، بل إن المنصفين من أعضاء اللجنة أشادوا بالمهنية التي انتهجناها. أما الغريب والمدهش.. أن الذين اتهمونا بمعاداة ثورة يناير، هم من هتفوا ضدها بعد ذلك، ووصفوها بالفوضى، والأكثر غرابة.. هو تصدرهم للمشهد حتى الآن، وتسكينهم في وظائف مهمة، رغم مصداقيتهم المفقودة بفعل تناقضهم، وهذه هي الفوضى بعينها، وتلك هي الفضفضة التي لن تقوم معوجًا، ولن تعدل مائلًا، رحم الله شهداء يناير، ورحمنا من الذين تاجروا بدمائهم.
besheerhassan7@gmail.com