رئيس التحرير
عصام كامل

ثقافة الوزة

هل تستطيع حكومة الدكتور مصطفي مدبولي تغيير الواقع البيروقراطي العقيم الذي يسيطر على منظومة العمل بأغلب القطاعات الحكومية فى مصر  منذ نحو 70 عاما، والذى يسير وفقا لمفهوم ثقافة الوزة التي لا تعرف سوى العقد والكلاكيع والبيروقراطية وإرهاق المواطن بإجراءات تفرضها قوانين ولوائح لفظتها أغلب دول العالم منذ سنوات.

 

فقبل 60 عاما وتحديدا فى عام 1961 شرع مسرح الدولة فى تقديم عرض مسرحى بعنوان "المفتش العام" مقتبس عن رواية "النفوس الميتة" للأديب الروسى نيكولاي جوجول، قام باخراجة الفنان الراحل عبدالمنعم مدبولي فى قالب كوميدى ساخر، تطلب في أحد المشاهد وجود وزة مع الفنانين على خشبة المسرح، مما دفع الإدارة للاتفاق مع بائعة طيور، كانت تحضر كل مساء ومعها وزة وتنتظر حتي انتهاء المشهد وتعود بها إلى المنزل فى مقابل أجر قدره 25 قرشا عن كل ليلة.

 

إلا أن الإدارة اكتشفت بعد أيام أن أجر الوزة مع نهاية ليالى العرض سيصل إلى أكثر من 100 جنيه، فى حين أن ثمنها لا يزيد عن 5 جنيهات، فقررت شراء الوزة والاحتفاظ بها بشكل دائم لصالح العرض.

 

الطريف، أن الموظفين اكتشفوا بعد شراء الوزة إنهم وقعوا فى مشكلة قانونية عويصة، فرضت عليهم ضرورة تقديم فاتورة للحسابات تفيد إنهم أنفقوا 5 جنيهات من ميزانية العرض على شراء "وزة" وهو ما اضطرهم إلى الذهاب إلى سوق الطيور والبحث عن صاحبة الوزة ومطالبتها بتقديم فاتورة بالمبلغ، ولآن السيدة لم تكن تعلم معنى كلمة فاتورة من الأساس، فقد حدث مشادة بينهما تحولت إلى معركة كادت أن تنتهى بكارثة لولا تدخل كبار تجار الطيور بالسوق، والذين اقترحوا اصطحاب البائعة معهم والتوجه جميعا إلى حسابات المسرح، والتوقيع برقم بطاقتها الشخصية على مبايعة تفيد إنها استلمت مبلغ 5 جنيهات فى مقابل توريد الوزة.

 

ثقافة الوزة

 

العجيب أن مشكلة موظفى مسرح الدولة مع الوزة لم تنته بانتهاء أزمة الفاتورة، حيث فاقوا بعد انصراف البائعة على مشكلة أكبر، وهى أن الوزة أصبحت طبقا للقانون "مالا عاما مملوكا للدولة" ولابد من حمايته، وأن اللوائح تقضى بضرورة تسليم الوزة إلى المخازن بموجب استمارة توريد، وأنه لابد أن يتسلمها موظف ويوقع عليه كعهدة على أن يقوم بتسليمها كل ليلة للمسئولين عن العرض بموجب إستمارة صادر، وإعادة إدخالها إلى المخازن بعد إنتهاء العرض كل ليلة بموجب استمارة وارد.

 

وبعد توريد الوزة للمخازن، وجد الموظفون أنفسهم أمام مسئولية أكبر، تحتم عليهم ضرورة الحفاظ على سلامة الوزة خشية الاتهام بالإهمال والتفريط فى المال العام، فأوكلوا إلى عدد من الموظفين مسئولية الإشراف علي الوزة وتوفير كل تحتاج إليه من ماء وغذاء، إلا أن الأمور سارت على عكس ما أرادوا ووقعت الكارثة سريعا، بعد أن تركوا الوزة فى إحدى الأيام دون ماء وطعام، مما أدى إلى سقوط المسكينة، وجدوها فى الصباح جثة هامدة ملقاه بمفردها وسط قطع الديكور في المخازن.

 

وهنا قامت الدنيا ولم تقعد، حيث تحركت إدارة المسرح سريعا وحررت محضرا بموت "الوزة" وتم إبلاغ النيابة الإدارية التى وجهت للموظفين تهمة الإهمال الذى تسبب في ضياع المال العام، وكادت التحقيقات التى استمرت لعدة أيام أن تنتهى بتحول الموظفين إلى النيابة العامة، إلا أنه تم الاكتفاء بخصم 15 يوما من راتب كل منهم، مع تحميلهم جميعا ثمن "الوزة".

 

للأسف أن الواقع يقول أن  البيروقراطية في أغلب قطاعات الدولة المصرية منذ ثورة 1952 وحتى اليوم تسير وفقا لمفهوم ثقافة الوزة وأن الباحث فى معوقاتها يستطيع أن يكتشف وبسهولة، أن كل الحكومات المتعاقبة قد رسخت لأنظمة إدارية مترهلة تقوض من إحداث تنمية حقيقية، بعد أن اتخمت الجهاز الإداري بعمالة زادت عن ال 6.760 ملايين موظف - طبقا للأرقام المعلنة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء - يعمل منهم نحو 1.962 مليون موظف بالجهاز الإداري، ونحو 2.992 مليون موظف بالإدارة المحلية، و470 ألفا بأجهزة الخدمة العامة، و350 ألفا بالهيئات الاقتصادية العامة، إلى جانب نحو مليون آخرين يعملون فى القطاعات المختلفة بعقود مؤقتة.

 

ترسيخ البيروقراطية

 

كما ساهمت كل الحكومات المتعاقبة في ترسيخ البيروقراطية من خلال عمليات التعيين العشوائية لملايين العمالة غير المنتجة أو الموزعة بشكل يسمح لها بالانتاج، خضعت أغلبها للمجاملات والواسطة، وبمعرفة ساسة ووزراء، ولأغراض انتخابية وشخصية، أرهقت ميزانية الدولة برواتب ضخمة، لدرجة وصلت بأعداد العاملين بالجهاز الحكومى في مصر بالمقارنة بعدد السكان إلى الأعلى عالميا، وبواقع موظف لكل 13 فرد، فى حين أن تلك النسبة في فرنسا إلى لا تزيد عن موظف واحدا لكل 114 فردا، وفي بريطانيا موظف واحدا لكل 112 فردا، وفي ألمانيا موظف لكل 109 فردا.

 

للأسف أن البيروقراطية التى تتحمل الحكومات المتعاقبة مسئوليتها لم يدفع عواقبها سوى المواطن المصرى الفقير، الذى أهدرت حقوقه في أغلب القطاعات الحكومية، وتعقد أمامه الإجراءات بحكم لوائح وتشريعات أهدرت المعايير السوية لتقييم العمل والأداء، وجعلت إختيار القيادات تخضع لأهواء، ورسخت لثقافة الفساد والرشوة بجعل الأجور والمكافآت لا تتناسب وأهمية العمل.

 

 

الواقع يقول أن البيروقراطية في مصر لم تشهد خلال السنوات الماضية سوى تطورات جزئية، في الوقت الذي سارت فيه كل الحكومات وفقا لمفهوم ثقافة الوزة ليظل الجهاز الإداري المصري في أمس الحاجة إلى ثورة تشريعية وإدارية، تستبدل منظومة جحود اللوائح والتعقيد والفساد والرشوة وتلال الأوراق، بأخرى إلكترونية حديثة وموحدة، تحكمها الكفاءة والنزاهة والرقابة، وتحقيق طموح المواطن، فهل تفعلها حكومة الدكتور مصطفي مدبولي.. أتمنى.

الجريدة الرسمية