رئيس التحرير
عصام كامل

الذكريات السوداء

منشور عبر موقع التواصل "فيس بوك" عبر إحدى الصفحات التعليمية، أنقله كما هو والعهدة على والدة التلميذ، مع التحفظ على ذكر اسم المدرسة الكائنة فى أحد أحياء محافظة الإسكندرية، إلى أن تتقدم السيدة ببلاغ إلى الجهات المختصة.

يقول المنشور: "اسم المدرسة (....)، اسم المُدرسة (....) بتاعت الرياضة معرفش اسمها بالكامل، الميس منعت ابني من دخول الحمام بعد ما اتحايل عليها وقال لها إنه عمل عملية جراحية وبياخد علاج وهيعمل عملية تاني لأنه هيشيل الطحال، وغلط يتمنع من الحمام".

 

 تكمل الأم ناقلة عن طفلها: "المدرسة يا ماما قالت لي اعمل حمام على نفسك ومفيش حمام ولما لقتنى باكل بعد شوية رمت لي الأكل وقطعت لي الشنطة ورمتها بره، وقالت لى اقعد (زي الكلب)، وقالت لميس تانية (معييش عصاية اضربهولي انتى)، والتانية ضربتنى من غير سبب".

تصرفات غير تربوية

 

تكمل الأم: "والله بيجاملوا بعض  في الضرب ولما رحت أجيب الولد من المدرسة لقيته عمل حمام على نفسه، ابنى صغير فى ابتدائي، المدرسة كسرت نفسه قدام الفصل كله وبقى واقف محرج من زمايله، ابني دلوقتي بيقول لي مستحيل أروح المدرسة دى تاني، لو اشتكيت تفتكروا كده حق ابني هيرجع؟ ولا مش هعرف أعمل ليها حاجة؟

 ابنى صعبان عليا والمدرسة كسرت نفسه ومش أول مرة تعمل فيه كده قولوا لي اعمل إيه لأن زوجى مسافر وأنا لوحدي وضعف ابني وكسرته وجعتني قوي".

 

إلى هنا وانتهى كلام الأم الجريحة فى كرامة فلذة كبدها، والذي استخرجت منه عدة جرائم ارتكبتها تلك المعلمة فى حق طفل بريء، أبرزها هو المنع من ممارسة حق إنساني أساسي مثل دخول الحمام فى أي وقت، إضافة إلى مرض الصغير واحتياجه إلى هذا بشدة، والتنكيل بطفل أمام زملائه بتركه يتبول فى ملابسه من شدة عدم قدرته على كتمان عملية الإخراج، والعزومة على الضرب بيد مدرسة أخرى، وهو الممنوع أصلا فى كافة مدارس الجمهورية بقرار وزاري.

 

أعود بالذاكرة إلى ذكريات سوداء مرت فى حياتى بالمرحلة الإعدادية وتحديدا عام 1989، وقبل وجود وسائل التواصل الاجتماعى، ولا أملك الآن إلا أن أدعو بالرحمة والمغفرة لهذا المدرس الذى غادر الدنيا، وترك الذكرى السيئة المصاحبة لأيامي وأيام زملائي معه.

 

حين كنت أجهز ليوم حصة ذلك الأستاذ، كان يوما أسود لا تذق عيناي النوم ليلته، رعبا وهلعا، أن يسأل الأستاذ أي سؤال وأتلعثم أمامه، مع أنني أحفظ ما طلب عن ظهر قلب، لكن الرعب كان يجعل الكلمات تنهار من لساني فلا أجد لها أى أثر.

تبدأ طقوس الرعب صباح اليوم التالى، يدخل الأستاذ الفصل، يغلق الباب من خلفه بالترباس، نقف جميعا، لا تقوي أقدامنا على حملنا رعبا، بل منا من يتصبب عرقا من الخوف، بينما يستعد الأستاذ لممارسة طقوس العنف.

 

يحذرنا بداية، من أنه إذا اختار أحدا للإجابة، ولم يفلح فإنه سيذيقه من العذاب صنوفا، مردفا: "هسأل واللى مش عارف ما يلومش إلا نفسه"، وينادي: "يا محمود قوم"، يقوم محمود ويكاد قلبه يقفز من صدره من الرعب، يكمل الأستاذ وهو يفتح عينيه فى اتساع مرعب: "جاوب يا محمود"، يفشل محمود في الإجابة، يستدعيه المدرس إلى مقدمة الفصل لتبدأ الحفلة.

مشهد سادى

 

يخلع الأستاذ جاكيت البدلة، يشمر أكمام قميصه، يخلع ساعة يده، يحضر عصاه الخيزران، المعدة والمجهزة بعناية شديدة، بصناعة ماسك يدوى لها كي لا تنفلت من يديه من شدة الضرب، مع تغليفها بشريط لاصق كي تكون أكثر سخونة وإيلاما.

 

يقف محمود أمامه، يضع الأستاذ يديه على صدغى محمود ثم يرفعهما ويهوى بهما سويا فى لحظة واحدة، ويكرر هذا الفعل مرتين أو ثلاثة، ثم يقوم بشد خصلات شعره رغبة فى اقتلاع بعضها من جذوره، مع التلفظ بألفاظ نابية والتهديد بأنه سيجرده من ملابسه، ويفقده ذكورته أمام زملائه.

 وينتهي المشهد السادي، بجرس انتهاء حصة العذاب، وبكاء محمود وانهياره ودخوله حالة من العزلة والخوف الشديد من زملائه ومن كل الناس، أثرت على سنوات عمره كلها.

 

"قوم يا إسلام"، يقولها الأستاذ، وهو يجحظ عينيه فى وجهى: "حافظ ولا لأ؟"، أرد برعب: "حححافظ"، ويكرر السؤال على مسامعي مع زيادة اتساع جحوظ عينيه وعلو نبرة صوته: "حافظ ولا لأ بقول؟"، أرد وأنا أرتعد خوفا بإيماءة مرتعشة من رأسي "نعم" مع فقدان القدرة على النطق.

يبدأ الأسئلة بشكل متسارع للغاية: ما هو..؟ جاوب بسرعة، ما هو...؟ جاوب ها، ما هو...؟جاوب، إلى أن تلعثمت فى الإجابة على السؤال الرابع، فانبرى قائلا لى: "اااه وقعت افتح إيدك"، وقد كانت هيئة الخيزرانة الشهيرة كفيلة بقتلى دون أن تمسنى، مع ما تركته فى راحة يدي من خطوط زرقاء استمرت أسبوعا.

 

 

وإلى الآن، ورغم مرور سنوات طوال، إلا أنني لا أذكر حرفا واحدا مما حاول تعليمه لى، لا أذكر سوى لحظات الخوف والرعب، لحظات الترهيب والقتل المعنوي التى كان يمارسها، نعم أدعو له بالرحمة لأنه لا يليق إلا ذلك، لكن فى قرارة نفسي أحتسب ما فعل عند ربي.

لكل مدرس، الضرب دلالة قاطعة على ضعف شخصيتك وفقدان القدرة على فرض الاحترام داخل فصلك، وهذا الاحترام لن يأتى إلا بنشر المحبة والعطف على تلاميذك وتمكنك من علمك، وبالتالي هذا سيدفعهم إلى التعاون معك والرغبة فى إبراز أبهى صورهم أمامك، حبا لك فقط، لا خوفا منك، أكرر حبا لك.. وفقط.

الجريدة الرسمية