رئيس التحرير
عصام كامل

أورويل التائه بين التأمين الصحي.. ووزارة الحقيقة

تمنيتُ أن يُقصف قلمي، فلا أكتب ما أريد، لتمتد يد الكاتب الراحل وجيه أبو ذكري لتحدثنا عن مأساة الإرهاب الصحي، فهي اليد القادرة على وصف ألوان العذاب والمعاناة، كما كان يصف في رواياته ما يشعر به من غصة تجاه القضايا العامة، ولكن هيهات أن يكون بيننا اليوم، ولا مناص من أن أكتب عن الجُذور التي تدُفن في معتقلات التأمين الصحي.

 

ونقصد بالجذور الآباء والأمهات الذين أفنوا أعمارهم كادحين صابرين على شظف العيش، إلى أن وهن العظم منهم وإشتعل الرأس شيبًا، ثم تسللت يد الإهمال لتنتزع أرواحهم ببطء، وبدمٍ بارد تحت مظلة التأمين الصحي، وهو مُسمى هزلي يُذكرني بـ"وزارة الحقيقة" في رواية ١٩٨٤ للروائي البريطاني الذي يشتهر بالذكاء وخفة الدم والتحذير من غياب العدالة الاجتماعية جورج أورويل، أنها الوزارة المعنية بترديد الأكاذيب صباح مساء، حتى يألفها الناس، ويُصدقونها، بل ويرددونها.



وتظهر أول مآسي التأمين الصحي حين تخرج عليك الصحف والمجلات المكتوبة والالكترونية لتُبشرك بالخبر السعيد، وهو زيادة الأرباح المتوقعة لهيئة الإرهاب الصحي، بحيث تزيد الأرباح عن المبلغ المُخصص لها في موازنة الدولة بعدة مليارات، وعليك أيها المواطن المكلوم أن تلتزم الصمت، وتُصفق بحرارة لهذا النجاح الباهر لهيئة تحولت عن غرض انشائها من تقديم خدمة إلى تحقيق ربح، ونحن نتفهم تصفيق وتهليل القائمين عليها لحصولهم على مكافآت باهظة بما يُرضي الله، بخلاف ما لا يرضي الله من الفساد المالي والاداري، ولكننا لا نفهم تصفيق غير المستفيدين إلا إن كان ذلك في سياق غياب كامل عن الوعي يستلزم العرض على أحد معتقلات الإرهاب الصحي

 

إذلال المرضى

 

ولما كانت أرباح هيئة التأمين الصحي بالمليارات، فقد كان جديرًا بها ان تَحول دون إذلال المرضى المنتفعين بخدمتها وتواجدهم من الساعة الخامسة فجرا حتى الثامنة والنصف موعد حضور الموظف المختص، ثم العاشرة صباحا موعد حضور الطبيب، في معاناة لا يطيقها الشاب الصحيح؛ فكيف يُطيقها المريض الطاعن في السن، وخذ مثلًا على ذلك عيادة التأمين الصحي بشارع الألفي، والمُسماة "شبرد" وكذلك عيادة المعادي.

 

وعلى ذكر عيادة التأمين الصحي المسماة "شبرد" التي لا تنقضي عجائبها، فإن أول ما يُدهشك عند دخولها الابتسامة العريضة على وجه الأخصائي الاجتماعي، وهو يُدخن سيجارته في هدوء بالغ، بينما يتحدث مع المريض كصديق مُقَرَّب، ثم ينتهي الحوار بجملته المعهودة "أعملك ايه يعني"؟ أدخل للمديرة.

 

وإياك عزيزي المنتفع بالتأمين الصحي أن تتجه لمديرة عيادة التأمين الصحي المسماة "شبرد" خاصة وباقي المعتقلات بوجه عام، فهي دائمًا مشغولة، وتجدها في الصيدلية أكثر من أي مكان آخر، ولو كنت من المترددين على العيادة فستسمع تبريرات المنتفعين لذلك الموقف، وهم بين مؤيد ومعارض، لكن عليك أيها المنتفع ألا تحدثها حتى لا ترد عليك ردودها السريعة التي قد تُصيبك بالضغط أو السكر، وإن كنت مُصابًا بهما فربما وصل بك الحال إلى العناية المركزة، ومنها إلى العناية الإلهية.

 

إبعت إبنك

 

ولكن اللافت في هذا الأمر أن الصيدلية تُنهي عملها الساعة الواحدة ظهرًا، بينما يستمر توقيع الكشف الطبي لبعض التخصصات حتى الساعة الخامسة مساءً، وعليك أيها المريض الطاعن في السن أن تتوجه للمعتقل في يومٍ آخر لتحصل على الدواء، ولكن إنتظر إن في قلوب هؤلاء القوم رحمة، فإذا ذهبت إلى المديرة أو الاخصائي المبتسم فسيقولون لك: إبعت إبنك في أي وقت.

 

 

وكم كنت أتمنى أن تتنازل هيئة الإرهاب الصحي "التأمين الصحي" سابقًا عن بعض أرباحها لتقدم الدواء للمرضى في أكياس، ولكن الواقع يشهد بأن الأكياس تُصرف أحيانًا ثم يحصل المرضى على الدواء في أيديهم أو في علب الأدوية الفارغة، والغريب أن الاكياس مطبوع عليها عبارات خاصة ببيانات المريض والدواء المنصرف، وهي ولا شك عبارات لازمة لحصول الهيئة على "شهادة الجودة"، إنها جودة القتل البطيء.. وللحديث بقية

الجريدة الرسمية