أن تصبح حكاية ترويها فتاة
حري بك أن تعشق فتاة تهتم بتفاصيل الأشياء، تلك التي تدقق في خطوط ودوائر وزوايا التطريز على ثوب عمتها، تسافر داخل حكاية مرسومة على الأطباق الصينية في خزانة جدتها، تغوص في منحنيات وأفرع النباتات المنحوتة في كراسي سفرة قديمة، تمسح بيديها الغبار عن رؤوس أعمدة السرير العتيق، وتحدق في زخارف جدران ببيت جدها، تتحسس بأصابعها النقوش على صينية من النحاس، تطالع لساعات صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لتخال ألوانها الأصلية..
تغمض عينيها وهي تعاين الكتابة البارزة على العملات المعدنية الصدئة، تزيل الزوائد عن أضلع طوابع البريد التي سقطت عن خطابات خالها لزوجته حين كان جنديا في حرب اليمن، تكشط الأوساخ المتراكمة في أركان علبة معدنية صغيرة أكبر منها سنا، تعيد رسم الخطوط التي محاها الزمن من رسوم قصة في أول كتاب أهداه لها والدها.. مثل هكذا فتاة إن أحببتك ستصون تفاصيلك وتبقى أنت للأبد.. حكايتها.
أين توجد الحياة؟
هنا الحياة.. على جدران الغرف في البيوت الدافئة بأنفاس أهلها، حيث صورة زفاف قديمة معلقة تداري شرخا يشق الطلاء، وصور أخرى لأبناء وأحفاد ترسم خريطة الزمن، وساعة كبيرة بعقارب مكسورة لا يتوقف نبضها، ولوحة رسمها فنان مجهول لفتاة تطارد الفراشات في الحقل بفستان ملون، وسجادة شغلتها يد امرأة محبة، وآية من كتاب مقدس خطها رجل بيده القوية، تجاورها عين زرقاء..
ورف نحيف من خشب عتيق يحمل كتابا بغلاف من الجلد، وعروسة داخل صندوق تدور حول أطراف أصابع قدمها على موسيقى ساحرة، في ضوء شمعة كبيرة تخضب الحائط بدخان أسود يشبه الكحل في عيون الجدات، وشماعة من الأبنوس تحمل قبعة من القش، وخربشات طفل تزخرف رسمة بالطباشير لبيت صغير يتوسط الوادي الأخضر يحرسه كلب يمسح رأسه في ساق امرأة تطعم دجاجاتها تحت الشمس.
ليزا والفراشات المضيئة
ليزا فتاة رقيقة في السابعة من عمرها، استمدت جمالها المدهش من نبع صاف قرب المحيط، حيث ولدت هناك، فأخذت من ماء النبع عذوبته ومن أمواج المحيط حيويتها الدائمة. منذ أن استنشقت أول دفقة هواء لها في هذا العالم، تيقنت أمها بأنها قد أنجبت معجزة صغيرة، فلم يحكي أحدهم يوما عن نبع ماء عذب يبيت في حضن محيط ماؤه ملح أجاج.
في لحظات المد، تنطلق ليزا كحصان بري لا يمكن إيقافه، بينما تستكين في لحظات الجذر كزهرة لم تتفتح أوراقها بعد. قبل ثلاثة أشهر وخمسة أيام، خرجت ليزا ضمن صفها في رحلة تخييم بالصحراء البعيدة، حيث رقصت وغنت وأطعمت الأرانب البرية وهي تلاعبها.
وفي الليل، بينما غاب ضوء القمر حين حجبته السحابة الكبيرة، أشعل معلم الصف نارا من أجل الإنارة والتدفئة، فتحلقت ليزا وأقرانها حول ألسنة اللهب المتراقصة، إلى أن هطلت الأمطار بغزارة فأطفأت النار، ولم يفلح المعلم في إعادة إشعال الحطب المبلل بماء المطر.
التزم الجميع الصمت، فيما ذهب المعلم بعيدا بحثا عن بعض الحطب الجاف لإشعال نار جديدة. تأخر المعلم كثيرا، وبدأ القلق يسعى بين الأطفال، كأفعى تتلوى بين أوراق الشجر، في ليلة خريفية. قالت المعلمة إنها ستذهب لتبحث عن المعلم الذي تأخر، وطلبت من الأطفال الكبار أن يهتموا لأمر أقرانهم الصغار، ثم مضت.
بدأ الخوف يسري في عروق الصغار، فانكمشوا كأوراق زهرة تلتئم، بينما صوت الذئب يقترب. مثل الجميع كان قلب ليزا يرتجف خوفا، لكنها أبدا لم تستسلم، إذ راحت تلاعب مخاوفها بإعادة حكي القصص التي سمعتها من جدتها، وأضافت إليها بعضا من خيالها.
في تلك الأثناء، التقت المعلمة بالمعلم، لكنهما ضلا طريق العودة إلى الأطفال، إلى أن لاحظا وميضا يلمع في الأفق، فسارا نحوه، أملا في أن يكون الأطفال قد نجحوا في إعادة إشعال النار. عاد المعلمان إلى الأطفال، ولم يكن ذلك الضوء إلا وميض فرشات صغيرة ملونة.. فمن أين أتت الفراشات المضيئة؟
لم يطل العجب كثيرا، إذ شاهدا أن ليزا كلما حكت واحدة من قصص جدتها المطعمة بخيالها، تحولت الحكاية إلى فراشة ملونة تشع نورا. كفت ليزا عن الحكي، بعدما تحولت السماء إلى بساط مرصع بفراشات النور، أما زملائها فكانوا يفردون أذرعهم لمعانقة النسيم.