صباح فخري "قلعة قدود" لا تموت
تشتهر مدينة حلب السورية بثنائية القلعة الشهيرة، وابن المدينة "عراب القدود الحلبية والموشحات" صباح فخري، الذي سيظل باقيا بفنه وحفاظه على التراث. فقد الغناء العربي بوفاة الفنان الكبير صباح فخري، أحد ألمع الأصوات الطربية الأصيلة، الذي امتدت مسيرته نحو 80 عامًا، إذ بدأ شغفه بالفن في طفولته وأقام أول حلقة إنشاد وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره لقاء ليرتين سورتين، وأدى أولى القصائد أمام الملأ "مقلتي قد نلت كل الارب"، حيث كان مُحاطًا بالمنشدين وقارئي القرآن ونجوم القدود الحلبية، من خلال مرافقة والده إلى جامع الحارة، حيث تقام حلقات الذكر والإنشاد، فأحب تلك الأجواء وتمكن في سنّ مبكرة من حفظ القرآن الكريم وتلاوته في جوامع حلب وحلقات النقشبندية، وبدأ يتدرب مع أحد أبرز شيوخ الموسيقى، فازداد تعلقا بالإنشاد واجتاز اختبارات "السمّيعة"، الذين يتمتعون بآذان لا تُخطئ النغم وتكشف خامات الصوت.
لعبت "خوانم"، أو نساء ذلك الزمن، دورًا في لمعان اسمه، إذ كان من عادات نساء حلب تنظيم لقاء شهري في المنزل يحضره الأهل والمعارف والجيران، وكن يطلبن الفتى صباح للغناء في تجمعهن.
عراب القدود الحلبية
تميز صباح فخري، بالمشاركة في المهرجانات المدرسية السنوية، فتعهده بالرعاية الفنان سامي الشوا وغير اسمه إلى محمد صباح، واصطحبه معه للغناء في المحافظات، ولعبت الصدفة دورها حين اختير وهو في الثانية عشرة من عمره، للغناء أمام الرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته حلب العام 1946، ما اعُتبر محطة مفصلية نقلت فتى الموشحات إلى آفاق أرحب، ثم تمكن بعد عامين من تلحين أنشودة "يا رايحين لبيت الله"، بمساعدة الفنان عمر البطش، وغنى من ألحان سري الطنبورجي، "أنا في سكرين من خمر وعين"، التي تميز بها بعدما أضاف إليها في اللحن والكلمة.
تغير صوت صباح فخري، في مراهقته فاعتزل الغناء مكرها في سنّ الخامسة عشرة، وعمل في مهن أخرى إلى أن التحق بالتجنيد، وبعدما اكتمل تكوين صوته عاد إلى الغناء عبر إذاعتي حلب ودمشق، وبرع في الموشحات والقدود الحلبية، وحين أسس السياسي المخضرم فخري البارودي، معهدا للموسيقى في دمشق، أُعجِب بصوته وتوقع له مستقبلًا مزدهرًا وقرر تبني موهبته ومنحه لقبه فأصبح صباح فخري.
شارك صباح فخري، في أعمال درامية عدة بسورية ولبنان، كما لحّن العديد من القصائد العربية وغنّاها، لأبي الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب، وحفظ دواوين شعر كاملة، وفي رصيده مئات الألحانً بين أغنية وقصيدة ودور وموشّح مع الحفاظ على التراث الذي تشتهر به حلب.
رحيل صباح فخري
شغف صباح فخري، الفني لم يمنعه من الوظيفة الحكومية بوزارة الأوقاف، حيث عين مؤذنًا في جامع الروضة بحلب، ومع الشهرة الكبيرة ترك الوظيفة وجاب العالم بشرقه وغربه يقدم فنه الأصيل ونال تكريمات عربية ودولية، وأصبح أول فنان غير مصري تقام له جمعية فنية تحمل إسمه في مصر وتضم محبيه منذ العام 1997. كما ارتبط الفنان صباح فخري، بصداقة الموسيقار محمد عبدالوهاب، منذ أن استمع لصوته في الشام، وقال له "مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه"، وبقي الاثنان صديقان حتى رحيل عبدالوهاب.
سجّل الفنان صباح فخري، رقمًا قياسيًّا بغنائه على المسرح أكثر من 10 ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية العام 1968، ودخل موسوعة "غينيس"، ثم ورد اسمه في موسوعة "مايكروسوفت Encarta"، بصفته أسطورة في الغناء العربي الأصيل، وأطلق عليه "عراب القدود الحلبية"، و"قلعة حلب الثانية"، كما نال وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديرًا لـ "إنجازاته في خدمة الفنّ السوريّ الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الغنائي العربي"، وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين السوريين لأكثر من دورة، نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب. كما انتخب عضوًا في مجلس الشعب السوري العام 1998، وتولى إدارة مهرجان الأغنية السورية.
على الصعيد الشخصي تزوّج الفنان صباح فخري مرتين، أنجب من الأولى محمد وعمر وطريف، وأنجب من الثانية الفنان أنس فخري، الذي يهوى الموسيقى الغربية وتخصص فيها، لكنه أصبح يؤدي أعمال والده في السنوات الأخيرة، وكان سببا في مشكلات عدة، إذ اتهمه بعض الفنانين السوريين بالإساءة إلى أبيه باصطحابه رغم تقدمه في العمر إلى البرامج التلفزيونية لكي يظهر إلى جانبه ويستفيد من شهرته، كما إتهمه أحد أشقائه بأنه يمنع والده من رؤيتهم أو الرد على اتصالاتهم لأنه يقيم معه ويريد الإستئثار به، خصوصا أنهم يرفضون إطلالاته التلفزيونية وهو في هذا العمر.. رحل صباح فخري، لكن فنه الأصيل سيظل خالدا شامخا لا يموت.
