مكارثية فنية
كانت طائرة أحد رؤساء أمريكا بالهواء في طريقها لإتمام رحلتها، عندما مازح أحد المساعدين رئيسه وسأله إذا كان خائفًا من سقوط مفاجئ للطائرة وموتهم جميعًا.. كان رد الرئيس الأمريكي هادئًا بأن سقوط الطائرة يعني شيئًا واحدًا وهو أن وسائل الإعلام بأكملها ستنشغل بوفاة الرئيس، لأنه الحدث الأكثر بريقًا، وتنسى وتتجاهل مسألة موت جميع من بالطائرة بما فيهم المساعد.
يبدو أن "مهرجان الجونة" تحول إلى ما يشبه هذه الطائرة الرئاسية حيث انشغل الجميع بالحديث عن الفساتين وتجاهلوا الأفلام، ليتحول الحدث بالنسبة للبعض من مهرجان سينمائي إلى عرض أزياء!
ولكن قبل انتهاء المهرجان تحول أحد أفلام المهرجان إلى تريند أثار الكثير من الجدل بين معجب ومهاجم والأخطر مشكك في وطنية صُناعه، وهو ما ذكرني بما حدث قبل عامين حينما شهدت القاهرة موجة غزيرة من الأمطار أغرقت شوارعها، وتسببت في حالات وفاة صعقًا بالكهرباء، ومع تداول صور الشوارع الغارقة طلت أحد الشخصيات العامة، لتعقب على الأمر، بتصريح غريب مفاده أن من ينشرون صور الشوارع يسيئون إلى سمعة مصر!
حرية الإبداع
ويبدو أن المنطق الذي جعل أحدهم لا يكترث للخسائر البشرية والمادية جراء الأمطار مكتفيًا باتهام من ينشرون الصور بكونهم يسيئون إلى مصر، هو المنطق ذاته الذي حرك الفنان شريف منير، وآخرين، لاعتبار فيلم ريش المعروض في مهرجان الجونة يسيئ إلى سمعة مصر بينما الإساءة الحقيقية تتمثل في المزايدات على وطنية الآخرين.
حاولت أن أشاهد الفيلم، بعد الصخب الذي صاحبه، لكنني لم أتحمل أكثر من عشر دقائق.. أصابني بالملل لأجد أمامي صدق التساؤل الذي ردده البعض عما إذا كان الفيلم قد أساء بالأساس إلى صناعة السينما وليس إلى مصر!
من حق الجميع إبداء إعجابهم أو اعتراضهم على المحتوى الفني للفيلم أما حالة المكارثية، واتهامات الخيانة والتآمر، وإدعاء امتلاك الوطنية والتشكيك في الآخرين فهو سلوك مرفوض. الفنانين هم أول من يجب عليهم الانحياز لحرية الإبداع وليس المطالبة بمصادرتها، ومصر أعظم من أن يتمكن فيلم من الإساءة إليها، أيًا كانت وجهة نظر المؤلف أو المخرج، ومثلما قدم الفيلم طرحه يمكن لنا المطالبة بأفلام أخرى تعرض ما تحققه الدولة من إنجازات وتظهر الجوانب الإيجابية في المجتمع.. والفن يواجه بالفن وليس بالمزايدات!