رئيس التحرير
عصام كامل

ثقافة رفض الآخر

على الرغم من حالة النضج السياسى التى وصل اليها المصريون شعبا وحكومة بحكم تلاحق وتقلب الأحداث منذ يناير 2011، إلا أن الثابت يقينا اننا مازلنا نفتقد لثقافة الحوار والاختلاف مع الآخر، بشكل وسع من هوة الخلاف بين الفئات والتيارات، على عكس كل الدول التى مرت بتجارب مماثلة فى العالم.

 

فالمتابع للحالة المصرية خلال السنوات العشر الأخيرة يستطيع أن يكتشف دون تمعن، أن طبيعة التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضخمة التى شهدتها البلاد، قد غرست بداخل الاغلبية العظمى من المصريين ثقافة كارثية تسمى بثقافة رفض الآخر عمقت الخلاف بين كل الفئات بشكل أقرب إلى العداء، على العكس تماما من طبيعة المرحلة التى اكسبت كل الشعوب التى مرت بتجارب مماثله نضجا سياسيا، جعل كل التيارات المختلفة فكريا وعقائديا تجتمع على مائدة حوار واحدة، اقتناعا بضرورة تضيق هوة الخلاف، والإتفاق على أطر ترتقى بالأوطان بشكل هادئ، بعيد عن التناحر والعداء ورفض الآخر.

 

 

إلا التجربة المصرية وللأسف سارت عكس ذلك تماما، حيث رسخت الأحداث لثقافة رفض الآخر ومبادئ تختلف وتجارب العالم المتقدم، والتعاليم المباشرة للمولى عز وجل فى القرآن الكريم فى قوله تعالى "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" وقوله تعالى "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى".

 

الغريب أن التجربة المصرية تتعارض أيضا مع كل المرجعيات التاريخية، ولا تتماشى سوى مع سياسة الكبر والتعالى التى لفظتها تجربة الحوار السمح المتواضع التى ارساها أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" قبل 1400 عام عندما ردته امرأة في حكم يتعلق بتحديد المهور، أراد أن يخضعه لهواه، فقالت له جهرا أمام جموع المسلمين: ايعطينا الله وتحرمنا يا عمر، أليس الله سبحانه يقول "وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" فما كان من الفاروق عمر إلا أن امتثل لرأيها فى تواضع، وقال معترفا بخطأه أمام الجميع: "أصابت امرأة والخطأ عمر".

أهمية الحوار

 

وحتى لا تختلط الأوراق، أؤكد أن حديثى هنا لا يتعلق بالحوار مع من يتبنون فكر الإرهاب والتطرف، أو من تورطوا فى قضايا الدم، أو يعملون لصالح دول وجماعات ومنظمات تهدف لاسقاط البلاد فى مستنقع العنف، ولكننى أعنى الوطنيون والمعارضون الشرفاء. وسأكتفى هنا بنموذجين أرى أنه كان على الدولة فتح حوار مع ما طرحاه من أفكار، حتى وإن تعارضت مع توجهاتها، إلا أنها كانت ستنتهى قطعا إلى حلول ترتقى بمتطلبات المرحلة.

 

أولهما، ذلك الخلاف الفكرى الذى نشب بين الدولة والدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، حول قضية تجديد الخطاب الديني، والذي وجد فيه البعض فرصة للهجوم على الطرفين على الرغم من نبل هدفهما، إلا أن غيبة الحوار وصلت بالبعض إلى حد إتهام الدولة بمحاولة طمس أحكام شرعية، وتصدير انطباع للرأي العام بأن من يدعون إلى تطوير الأزهر يسعون إلى هدم الدين، كما إتهم آخرين الأزهر وشيخه، بعدم إمتلاك رؤية للتطوير، وإفتعال أزمات لتعطيل مناقشة قضايا هامة مثل "تطوير مؤسسة الأزهر، وتعديل المناهج الأزهرية، وتنقية كتب التراث".

 

 في حين أن الحوار كان سيبرز الرؤية الصحيحة للدولة والتى لا تهدف للمساس بثوابت الدين أو أحكامه على الإطلاق، ولكن تنقية كتب الثراث مما علق بها من أفكار خاطئة مثل تلك التي جعلت الآلاف من الشباب المسلم ينطون تحت رايات التكفير والقتل والعنف.

 

في الوقت الذي كان سيبرز فيه الحوار أيضا رؤية الأزهر، والتى تهدف إلى طرح القضية بشكل ينأى بمؤسستها عن تهمة التسييس ولاسيما وأنها دعمت توجه الدولة بإنشاء مركز للتراث والتجديد يضم عشرات العلماء من داخل مصر وخارجها، إلا أن غيبة الحوار جعل هوة الخلاف بين الطرفين قائمة حتى اليوم.

 

أما ثانى النماذج فهو الدكتور أيمن منصور ندا رئيس قسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة، والذى أرى إنه رغم إنزلاقه إلى السب والقذف بحق عدد من الشخصيات فى عددا من مقالاته، إلا أن مضمونها كان فرصة لفتح حوار ثرى حول عمل الإعلام وأهدافه ومضمونه، بدلا من سجنه ونشر صوره مكبلا بالحديد، ولاسيما أن الرجل لا يحمل فكرا متطرفا ولا ينتمى لتيار أو فصيل محظور.

 

يقينى أن ثقافة الصوت الواحد ورفض الآخر قد عفى عليها الزمن، وأن تبنى ثقافة الحوار مع الوطنيين والمعارضين الشرفاء -حتى وإن اختلفوا فى الرأي- لن تقلل من هيبة الدولة، بل ستفتح مجالا لاكتشاف رؤى جديدة تدفع بالبلاد إلى الأمام.. وكفى.

الجريدة الرسمية