اللى مش عاجبه يشرب من البحر
إلى متى سنظل نقبل ب"معونة الذل الأمريكية" والسماح لواشنطن بإستخدام تلك الورقة القذرة للضغط والتدخل فى الشأن الداخلى بين الحين والآخر، ألم يحن الوقت منذ عام 1952 لنقول لواشنطن نشكركم ونحتفظ بحق التصرف فى شأننا المصرى؟
فمنذ عقود والولايات المتحدة الأمريكية تصر على تجاهل ما يعج به المجتمع الأمريكى من عنصرية وتمييز وانتهاكات صارخة لحقوق الأقليات، والعودة بين الحين والآخر لممارسة دورها المتطفل، والتدخل فى الشأن الداخلى المصرى، والتلويح بحجب المعونة.
وهو ما حدث بالفعل منذ أيام، حيث لوحت إدارة بايدن بحجب 130 مليون دولار من المساعدات الأمريكية السنوية لمصر، مطالبة الحكومة المصرية بضرورة اتخاذ إجراءات لتعزيز "حقوق الإنسان والنساء، وحماية الأقليات الدينية وحرية التعبير، وتمكين منظمات المجتمع المدنى ووسائل الإعلام من العمل دون تدخل، ومحاسبة قوات الأمن فى حال وجود انتهاكات، والتحقيق في وقائع القتل خارج إطار القانون والإخفاء القسرى".
إفتراءات أمريكية
ولأننى لست بصدد الدفاع أو تبرئة ذمة مصر من تلك الافتراءات، إلا أن القراءة الهادئة للمطالب الأمريكية تعكس بالفعل كثيرا من الإفتراءات وإغفال لخطوات تجاوزتها مصر منذ سنوات، خاصة فيما يتعلق بملف حقوق الأقليات الدينية الذى يحمل إشارة صريحة ل "أقباط مصر" الذى تكن لهم الأغلبية المسلمة فى البلاد كل اعتزاز وتقدير وإحترام، ولا تقبل باعتبارهم أقلية دينية، فى ظل اندماجهم الكامل والطبيعى فى المجتمع المصرى، ورعاية رسمية منحتهم حرية بناء الكنائس وممارسة شعارهم الدينية، وتقلدهم لأرفع المناصب القيادية والنيابية فى الدولة.
وهو ذات الحال بالنسبة للمرأة التى يطالب الأمريكان بحقوقها، فى الوقت الذى لا يوجد دولة بالمنطقة منحتها مثلما فعلت الدولة المصرية، حيث أصبح لها الحق فى 25% من مقاعد البرلمان، وتقلدت مناصب وزارية وقيادية مرموقة.
كما أنه لا يمكن لعاقل أن يقبل بمطالب الأمريكان، ورفض ما أقدمت الدولة المصرية عليه من تنظيم لعمل منظمات المجتمع المدنى، والقبول بعودة فوضى التمويلات الأجنبية والعمالة التى جعلت البلاد مستباحة قبل يناير 2011.
وعلى الرغم من قناعتى بأن حديث الأمريكان عن حالات القتل خارج القانون والاختفاء القسرى يعد سرابا لا وجود له سوى فى تقاريرهم غير الموثقة بوقائع بعينها، يبقى الحديث عن حرية عمل الإعلام مرهونة بمدى قناعة الدولة بجدوى دوره كجزء لا يتجزأ من النظام، مع ضبط محدود لثقافة تعامل قطاع ضئيل من رجال الشرطة مع المواطنين، فى ظل توجه محمود بتحويل المتجاوزين خلال الفترة الأخيرة للمحاكمة فى وقائع شهيرة.
التاريخ الأسود للمعونة
يقينى أن التاريخ الأسود للمعونة وإستخدامها من الإدارات الأمريكية المتعاقبة للتدخل فى الشأن الداخلى المصرى أصبح فى حاجة لإعادة نظر، ولاسيما وأن ذلك التوجه ليس وليد اليوم، بل يعود إلى عام 1956 حينما استخدمته واشنطن للضغط على الرئيس عبد الناصر للتراجع عن قرار تأميم قناة السويس، ثم عادوا واستخدموه فى عام 1962 وقرروا قطع المعونات احتجاجا على إرسال عبدالناصر قوات مصرية لليمن.
وفى عام 1964 عادوا لذات السلوك لارغام مصر على وقف المظاهرات التى اندلعت بالقاهرة وإتهمت أمريكا بالتورط فى مقتل الزعيم الكونغولى "بياتريس لومبوما" إلا أن الرئيس عبدالناصر رد عليهم حينها قائلا: "اللى مش عاجبه سلوكنا يشرب من البحر".
وفى عام 1965 وتحديدا بعد توقف شحنات السلاح المصرية إلى الكونغو، وتوقيع إتفاقية وقف إطلاق النار فى اليمن، حدث تقارب فى المواقف الأمريكية المصرية، ووقع البلدان اتفاقيتين تمنح بموجبهما أمريكا 65 مليون دولارا لمصر في شكل معونات، إلا أن الرئيس عبدالناصر رأى فيهما تقيدا لحرية مصر فى تصنيع السلاح وقرر رفضها، فقرر الأمريكان وقف المعونات، ورد عليهم الرئيس عبدالناصر حينها قائلا: "إن الحرية التي اشتريناها بدمائنا لن نبيعها بالقمح أو الأرز".
وظلت المعونات الامريكية لمصر متوقفة حتى عام 1974 إلى أن اقترح وزير الخارجية الأمريكى "هنري كيسنجر" مد مصر بشحنه من القمح، بعد أن تدخل لرعاية اتفاقات التهدئة بين مصر والكيان الصهيوني عقب حرب 1973.
وبعد توقيع إتفاقية السلام مع الكيان الصهيونى عام 1979 صارت المعونات الأمريكية جزءا من الضمانات الأمريكية للاتفاقية، وتحولت منذ عام 1982 إلى منح لا ترد، إلا إنهم عادوا للضغط والتلويح بقطعها عقب 25 يناير 2011 وتفجير قضية التمويل الأجنبى، وتوجيه اتهامات لشخصيات ومنظمات أمريكية بالإضرار بالأمن القومى المصرى.
وعقب الإطاحة بنظام الإخوان، ورفض مصر للتدخلات الأمريكية بخارطة الطريق، قررت إدارة أوباما وقف المساعدات بذات الحجج التى يسوقون لها هذه الأيام، ثم عادوا لذات النهج فى عام 2016 حينما قرروا تأجيل صرف 195 مليون دولارا وإلغاء 96.7 مليون دولارا أخرى، وأعقبه قرار من الكونجرس عام 2017 بتخفيض المعونة بقيمة 300 مليون دولار.
يقينى أنه قد آن الأوان لرفض معونة الذل الأمريكية التى لا تتجاوز 2% من الناتج الوطنى المصرى، والتخلص من ورقة قذرة استخدمها الأمريكان لعشرات السنين للتدخل فى قرارنا الوطنى واللى مش عاجبه سلوكنا يشرب من البحر.. وكفى.