عبد الناصر يهزم إسرائيل في باندونج
تاريخ التضامن الأفروآسيوي (6)
7 أيام، كانت هي مدة انعقاد ذلك المؤتمر الذي أعاد تشكيل وجه التاريخ؛ ففي باندونج ولدت حركة عدم الانحياز والحياد الإيجابي. شكل اللقاء الأفرو آسيوى المعروف بمؤتمر باندونج فى إندونيسيا نقطة الانطلاق نحو تصفية الاستعمار فى النصف الثانى من القرن الماضى، وحملت انتصارًا دبلوماسيًّا لا يعرف تفاصيله الكثيرون، لعبد الناصر على إسرائيل. وتحيى دول حركة عدم الانحياز الذكرى الـ66 لهذا المؤتمر التاريخي الذى ضم - بجزيرة جافا فى إندونيسيا من 18 إلى 24 أبريل 1955- ممثلى 29 بلدًا من إفريقيا وآسيا حديثة الاستقلال.
وبرزت فيها مصر بثورتها الوليدة، وزعيمها الشاب جمال عبد الناصر بجوار زعيمى الهند وإندونيسيا، جواهرلال نهرو، وأحمد سوكارنو، وشوين لاى رئيس الوزراء الصيني، حيث تعلم عبد الناصر الكثير من الزعماء المخضرمين.
الخطاب الافتتاحي
وفى خطابه الافتتاحى لمؤتمر باندونج، أكد أحمد سوكارنو، أول رئيس لجمهورية إندونيسيا أنه: لا توجد أى مهمة أكثر عجالة من الحفاظ على السلم، مضيفًا: دون السلام لا يعنى استقلالنا شيئًا كبيرًا. وقال سوكارنو مخاطبا ممثلى البلدان الآسيوية والأفريقية فى أول اجتماع لهم: باستطاعتنا تجنيد القوة الروحية والأخلاقية والسياسية لقارتى آسيا وافريقيا لفائدة السلام.
ودعا القادة الأفرو آسيويون المشاركون فى مؤتمر باندونج بعد سبعة أيام من المحادثات إلى اعتماد عدد من المبادئ من بينها احترام حقوق الإنسان والسيادة والوحدة الترابية لجميع الأمم، والمساواة بين جميع الأعراق والأمم وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للبلدان، والامتناع عن القيام بتهديدات أو اعتداءات أو استعمال القوة ضد الوحدة الترابية أو الاستقلال السياسى لبلد ما، والى تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية وتشجيع المصالح المشتركة والتعاون.
وسرعان ما أتى مؤتمر باندونج أكله؛ إذ تم قبول عضوية ست دول آسيوية وإفريقية فى الامم المتحدة فى ديسمبر من نفس السنة، وهى: كمبوديا وسريلانكا والأردن ولاوس وليبيا والنيبال، بينما انضمت ست دول أخرى ما بين 1956 و1957 وهى: اليابان والمغرب والسودان وتونس وغانا وماليزيا.
استقلال الدول الأفريقية
وخلال السنوات العشر التى تلت المؤتمر، انتزعت 31 دولة أفريقية استقلالها، معلنة بذلك نهاية العهد الاستعمارى باستثناء فلسطين التى لاتزال ترزح تحت نير الاحتلال الاسرائيلي. وجسدت روح مؤتمر باندونج بعد ذلك فى سنة 1961 ببلجراد (صربيا)، من خلال تأسيس حركة دول عدم الانحياز التى تضم دولا اختارت ان تكون على الحياد من المعسكرين الشرقى والغربى المتصارعين آنذاك.
وتقول تفاصيل الانتصار المصري الذي تحقق على إسرائيل آنذاك، إن الوقت كان مساء يوم 8 أبريل، عام 1955 حين أقلعت الطائرة التى تقل الرئيس جمال عبد الناصر فى طريقها إلى باندونج فى إندونسيا لحضور مؤتمرالحياد الإيجابى الأول، فى وقت كانت الحرب الباردة على أشدها بين أمريكا والاتحاد السوفيتي «روسيا» منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية فى سبتمبر 1945.
معركة مع إسرائيل
وكانت إسرائيل مجالًا لمعركة قوية خاضها عبد الناصر قبل انعقاد المؤتمر.. ودارت حول مشاركتها فيه، ورفض عبد الناصر ذلك جملة وتفصيلًا، ودارت بشأنه مفاوضات ماراثونية كان هو محورها من جهة والزعيم الهندى ورئيس وزراء بورما فى الجهة الأخرى.
يقول هيكل: «كانت الدعوة الأصلية لباندونج موجهة من خمس دول آسيوية اجتمعت فى كولمبو «أكبر مدن سيريلانكا»، وطرحت فكرة اللقاء الآسيوى الأفريقى الواسع ودعت إليه، ورأى الداعون توجيه دعوة إلى إسرائيل بوصفها «بلد آسيوى»، واتصل جمال عبد الناصر بالزعيم الهندى «نهرو» ورئيس وزراء بورما «أونو»، يوضح لهما أن حضور إسرائيل للمؤتمر معناه أن تقاطعه كل الدول العربية، واقتنع نهرو، ولكن«أونو» لم يقتنع بسهولة فبعث لعبد الناصر يقول له إنه لا يستطيع أن يسحب الدعوة من بلد فى آسيا وجهت إليه الدعوة فعلا».
رد عبد الناصر على «أونو» برسالة عبارة عن خطاب مفصل يشرح فيه تركيبة إسرائيل ودورها فى خدمة الاستعمار فى المنطقة، لكن «أونو» عاد وكتب لعبدالناصر بأن الدول الآسيوية قد تطلب حجة مقنعة ومحددة لمنع إسرائيل من الحضور، وأضاف: «قد لا يكون ملائما للعرب أن يفرضوا صراعهم مع إسرائيل على أصدقائهم فى آسيا وأفريقيا».. يؤكد هيكل أن «أونو» تساءل عن الأساس الذى يمكن أن يرتضيه العرب، فرد عبد الناصر: «العرب على استعداد لقبول قرار التقسيم «1948»، فإذا ما قبلته إسرائيل، فإن الطريق يصبح ممهدا».
إسرائيل ترفض التقسيم
أسفرت جهود عبد الناصر عن نتيجة مهمة، يذكرها هيكل قائلا: «بعد أيام، ويبدو أن أونو اتصل بإسرائيل وعرف رفضها القاطع لقرار التقسيم، فاتصل بعبد الناصر ليقول له، إنه تأكد له الآن، أن إسرائيل مصممة على العدوان، ولا تريد حلا معقولا، ولهذا قرربالتشاور مع نهرو ومع بقية مجموعة «كولمبو» سحب الدعوة الموجهة لإسرائيل للاشتراك فى المؤتمر».
هكذا نجحت معركة عبد الناصر ومنع اشتراك إسرائيل فى باندونج، ووفقا لهيكل فإنه فى طريقه لحضور المؤتمر، قام بزيارة باكستان، والسبب أنه «لم يكن يريد لعلاقات مصر التى تتوثق مع الهند أن تبدو وكأنه محور ضد باكستان، وشرح لرئيس وزراء باكستان «محمد علي» أن مصر لا تريد أن تتورط فى الصراعات بين المعسكرين الكبيرين، وأن هذا أهم ما يجمعها مع الهند، ورد محمد على قائلا: «إننى أوافق على الابتعاد عن الكتل الكبرى ولكن ليس الآن».
غادر عبد الناصر باكستان، فقام بأول زيارة له إلى الهند، وكان أول زعيم أجنبي يخطب فى اجتماع مشترك لمجلسى البرلمان فى العاصمة نيودلهي، ويؤكد هيكل: «واصل عبد الناصر سفره إلى باندونج ومعه «نهرو»، وتوقفا يومًا فى «رانجون» عاصمة «بورما» حتى يتمكن من مقابلة «أونو» بعد كل ما كان بينهما من مراسلات حول اشتراك إسرائيل فى المؤتمر وليتعرف عليه شخصيًّا قبل أن تجمعهما لقاءات المؤتمر الكبير.