تاريخ التضامن الأفروآسيوي ( 5 )
ما زلنا نستعرض صفحات من مذكرات خبير العلاقات العربية الأفريقية، وأستاذ العلوم السياسية حلمي شعراوي، والذي كان مسئولا عن حركات التحرير الأفريقية أثناء فترة حكم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وترأس الجمعية الأفريقية للعلوم السياسية فترة طويلة.
يقول شعراوي: كانت ثورة الجزائر تشد انتباهنا كثيرًا، وكانت القيادة المصرية حريصة على معنى مواجهة فرنسا في الجزائر وشمال إفريقيا بعد عدوانها على مصر، حيث كانت إذاعة "صوت العرب" تطلق في الثامنة مساء كل يوم برنامجها الخاص بصوت جهوري، يقول: "شمال إفريقيا بلادنا، حريتها حريتنا"، وهكذا مع توالي نجاحات الثورة، حتى كان فيلم "جميلة بو حريد" قمة التعبير عن هذه العلاقة الشعبية الخاصة.
وسبق أن ميزت في الرابطة الإفريقية حضور عبد الكريم الخطيب، اللاجئ السياسي كمجاهد من "مراكش"، لأن الجزائريين كانوا معتزين بوضعهم كحكومة مؤقتة في المنفى ذات مقر خاص بجاردن سيتي، ويعيش بعض ممثليهم في حالة وزارية كاملة.
وكنت أعيش حالة أخرى مع الدكتور فيلكس مومي، زعيم الكاميرون، الذي كان أنصارُه يقاومون في الجبال أيضًا على نسق ما يفعل الجزائريون، وكان هدفه ضرب نفوذ عملاء فرنسا كما كان هدف مصر، وكنت أتألم أحيانا لعدم احتفاء الإعلام بمثل هذا الرجل الذي كان تقديره عاليًا بين الأفارقة من أنحاء القارة، كما كنت أتابع نشراته بالفرنسية ضد أحمدو أهيدجو، رئيس فترة الانتقال في الكاميرون (1958/1960)، لصالح استقلال "ذي طابع فرنسي" تعده فرنسا لعام 1960، مع غيره من دول الفرانكفون التابعة، ولذا كانت خشيتهم عظيمة من شخصية مثل مومي فقتل مسمومًا في سويسرا!
عبدالناصر ونكومو
وبينما كانت الكاميرون رقمًا هامًّا ضد فرنسا بنضالها المسلح، كان خروج غينيا كوناكري على النفوذ الفرنسي باختيار سيكوتوري إعلان الاستقلال من جانب واحد في أكتوبر 1958، له معنى هامٌّ جدًّا رسميًّا وشعبيًّا في مصر. وتكونت الوفود للسفر إلى كوناكري لتحية هذا الاستقلال وإبداء الرغبة في المساعدة.
وبرزت على ساحة العمل الأفريقي وجوه غير مألوفة فيه مثل د. فؤاد جلال، رئيس البرلمان، وأحمد فهيم، رئيس اتحاد العمال، كما ذهب أحمد بهاء الدين وكتب بشكل جعل المسألة في غاية الشعبية، وأعلن كثيرا عن مساعدة مصر لشعب غينيا في المجالات المختلفة، لأنه شاع أن فرنسا سحبت كل الخدمات القائمة في البلاد، وهي تخرج مدحورة من هناك.
لم يكن حضوري مع د. مومي هو القيمة الوحيدة، فقد جاء جوشوا نكومو لفتح مكتب "روديسيا" (زيمبابوي) لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي لروديسيا (SR- ANC). وكان لابد للزعيم نكومو أن يقابل عبد الناصر أولًا، فبقي عدة أيام في مصر، وطلب مني السيد فايق (كان مديرًا لمكتب الرئيس جمال عبد الناصر للشئون الإفريقية ثم مستشاره للشئون الأفريقية والآسيوية، وتولى رئاسة وزارة الإرشاد القومي "وزارة الإعلام" في الفترة من سبتمبر 1966، ثم عُيِّن وزيرًا للدولة للشئون الخارجية عام 1970، وكان نائبًا لرئيس اللجنة المصرية للتضامن الأفريقي الآسيوي)، أن أصاحب الرجل في القاهرة يومًا حتى يتحددَ موعده مع الرئيس عبد الناصر.
جرت حوارات ممتعة مع الزعيم الأفريقي، وبدأت علاقة ودٍّ مع نكومو استمرت فيما بعد، حتى أنه دعاني شخصيًّا مع أصدقاء لزيمبابوي عقب الاستقلال 1980! في هذه المقابلة المبكرة شرح لي فكرة مسمى "المؤتمر الوطني الإفريقي" في بلاده، وفي معظم دول الجنوب الإفريقي نتيجة تأثير معنى وقيمة المؤتمر "Congress" الذي أسسه الزعيم مهاتما غاندي في الهند بعد تجربته في جنوب إفريقيا.
روديسيا ومشكلة فلسطين
وحكينا عن مشكلة المستوطنين ورغبتهم في حكم أفريقيا أو أجزاء كبيرة منها.. كانت تلك هي سياسة بول كروجر وسيسيل رودس في مطلع القرن العشرين، وكانا على اتصال بثيودور هرتزل الصهيوني لتشابه المشروع في فلسطين.
وحيث تأخر الموعد مع الرئيس لبضعة أيام صاحبت نكومو في نزهة بالقاهرة (بناء على تعليمات السيد فايق أيضًا)، فلم يتفتق ذهني في حدود خبرتي الضئيلة بالترفيه إلا أن أصحبه إلى حديقة الحيوانات بالجيزة، وهي النزهة الوحيدة التي كنا نستمتع بها أطفالا وصبية! ومن اللطيف أنها ملاصقة للجامعة، وعند خروجي منها قابلت د. محمد أنيس الذي كنا تصادقنا في لقاءاته المثمرة والعبثية مع تلاميذه.
وعرفته بالزعيم الإفريقي، وقلت إننا كنا في حديقة الحيوان.. ضحك أنيس بشدة، وقال: "يعني الرجل القادم من بلاد "الناشيونال بارك" (National Park)، "براري الحيوانات الوحشية السياحية"، تذهب به إلى حديقة الحيوان يا حلمي!". ونقل هذه المزحة الشعبية للرجل، وإن بلطف، ثم راح يتحدث معه عن السياسات الاستعمارية في أفريقيا، مما جعل الرجل يتساءل عن الجامعة والجامعيين في مصر، ويعجب بي أيضًا لصداقتي بأساتذة بهذا الشكل.
وحاول تخفيف المزحة على مايبدو فشرح لي معنى وموقع "الناشيونال بارك" في بلاده، وكذلك في جنوب أفريقيا وكينيا. ولم أكن أتصور أن السياحة وسط عالم الوحوش ممكنة، وإن كنا نعيش وسط الوحوش الانسانية بمخاوف أبشع!
وقد حاول نكومو أن يتفهم مني أيضا أوجه التشابه التي ألمحت إليها بين روديسيا ومشكلة فلسطين، فشرحت له إشكالية الزعم الاستيطاني العنصري في فلسطين والجزائر وكينيا، وفي روديسيا وجنوب إفريقيا على السواء.. لكنني شعرت مبكرا أن الحركة الصهيونية والكثافة اليهودية في الجنوب الإفريقي، تجعل زعيما مثقفا مثل صاحبنا يغيب عنه الارتباط بين الصهيونية وقضية الاستيطان الرهيبة أيضا في بلاده.