ياسر برهامي: يجوز إجراء عملية حقن مجهري لإنجاب مولود ذَكَر
ورد سؤال إلى الدكتور ياسر برهامي، الداعية السلفي عن حكم إجراء عملية حقن مجهري لإنجاب مولود ذَكَر؟ شخص عنده خمس بنات، ويريد أن ينجب ولدًا ذكرًا، فنصحه البعض بأن يقوم بعملية حقن مجهري لينجب ذَكَرًا، وأن هذا متاح بالنسبة للطب الآن فهل هذا جائز أم أن هذا فيه عدم رضا بقضاء الله وقدره؟
من جانبه أجاب الشيخ ياسر برهامي قائلا عبر موقع الدعوة السلفية: هناك طريقتان في مسألة تحديد نوع الجنين: الطريقة الأولى: مبنية على حقن مجهري لعدة بويضات في داخل الرحم حتى إذا نَمَت الأجنة وظهر نوعها اختار منها ما يريد وأجهض الباقي، وهذه محرمة؛ لأنها تتضمن الإجهاض بعد التخليق، وهو جناية محرمة، ولا يمكن أن يظهر التخليق إلا بعد الأربعين؛ فهذه الطريقة غير جائزة.
وتابع: الطريقة الثانية مبنية على تلقيح بويضات بالحيوانات المنوية خارج الرحم، فإذا انقسمت الخلية خارج الرحم إلى نحو 8 خلايا أُخِذت واحدة ففحصت كروموسوماتها لمعرفة نوع الجنين المحتمل، فما وافق المطلوب زُرِع داخل الرحم؛ أعني الـ 7 خلايا الباقية، وهي تكون جنينًا كاملًا، وهذه الطريقة لا تتضمن محرمًا، فهي جائزة -وإن كانت مكلَّفة الثمن وهذا أخذ بالأسباب، ليس فيه اعتراض على القَدَر.
وفي سياق متصل، ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه "هل يجيز الشرع الحنيف استخدام ما وصل إليه العلم الحديث في مسألة تحديد نوع الجنين؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
خلق الله تعالى الإنسان خلقًا متوازنًا؛ فجعله زوجين: ذكرًا وأنثى، وميَّزَ كُلاًّ منهما بخصائص تتناسب مع الوظائف التي أقامه فيها، وبيّن أن هذه هي طبيعة الخلق التي تقتضي استمراره؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ۞ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ [النجم: 45-46]، وقال تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]، وهذا التنوع في الخلق، والتوازن في الطبيعة هو ما اقتضته حكمة الله تعالى العليم بكل شيء والقدير على كل شيء.
حكم تحديد نوع الجنين
وعندما نتناول مسألة كمسألة تحديد نوع الجنين فإننا نعالجها على مستويين مختلفين:
الأول: المستوى الفردي.
الثاني: مستوى الأمة.
أما على المستوى الفردي:
فالحكم الشرعي لتحديد نوع الجنين بالنسبة على المستوى الفردي هو الإباحة؛ إذ الأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص، ولقد كان من دعاء سيدنا زكريا عليه السلام: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ۞ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: 5-6]، فطلب من اللهِ الولدَ الذكرَ، كما حمد إبراهيم ربه حين رزقه الولد فقال: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: 39]، قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (3/ 201): [وفيه إشعارٌ بأنه دعا ربه وسأل منه الولد، فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون مِنْ أجَلِّ النعم وأجلاها] اهـ.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ علَى مِائَةِ امْرَأةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ، يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» أخرجه البخاري واللفظ له (2664)، ومسلم (1654). وترجم له البخاري فقال: (باب مَنْ طلب الولد للجهاد).
وقد ورد في السنة الإشارة إلى تحديد نوع الجنين؛ ففي حديث ثَوْبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ، أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ، آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ» أخرجه مسلم (315). و«أذْكَرَا» أي: كان ولدُهما ذَكَرًا، و«آنَثَا» بالمد وتخفيف النون، وروي بالقَصْر والتشديد «أنَّثَا»، أي: كان الولدُ أنثى. ينظر: "الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" للسيوطي (2/ 75).
فلو أنا فهمنا الحديثَ على وجهه وطبقنا ما فيه للوصول إلى تحديد نوع الجنين لم يكن علينا من بأس، فإخبار الشارع لنا بأمور غيبية جائزٌ لنا الاستفادةُ منها، إلا ما نَهَى هو عنه، فدل ذلك على مشروعية طلب نوع محدد من الذرية، وأن السعي للوصول إلى ذلك مشروع. والأمورُ بمقاصدها.
وأما على مستوى الأمة:
أما إذا عالجناها على مستوى الأمة فالأمر يختلف؛ لأن الأمر قد يتعلق حينئذٍ باختلال التوازن الطبيعي الذي أوجده الله تعالى، واضطراب التعادل العددي بين الذكر والأنثى الذي هو عامل مهم من عوامل استمرار التناسل البشري، وتصبح المسألة نوعًا من الاعتراض على الله تعالى في خلقه بمحاولة تغيير نظامه وخلخلة بنيانه وتقويض أسبابه التي أقام عليها حياة البشر.
حكم الشرع في تحديد نوع الجنين
اعتراضات والرد عليها:
وقد يَرِدُ على هذا بعض الاعتراضات، منها:
إذا قيل: إِنَّ قوله تعالى: ﴿للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ۞ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 49-50] يَمْنَعُ تحديد نوع الجنين؛ لأن الله هو الذي يهب ما يشاء.
قلنا: إِنَّ الله يهب ما شاء لمن يشاء، والتعرُّض لهبة الله والسعي إليها غير محظور، فهو في ذلك كالرزق والرحمة وكل عطاءات الملك الوهَّاب، ثم إن الله تعالى يجعل من يشاء عقيمًا، ومع ذلك فالتداوي من العقم جائز، فكذا يكون تحديد نوع الجنين جائزًا.
وإذا قيل: قد يقبل الناس على اختيار نوع واحد، وهو الذكور غالبًا، وفي هذا إنهاء للنوع البشري.
قلنا: إنه ليس كل الناس سيقبل على الحمل عن طريق التحديد أصلًا، ثم إن هناك فريقًا قد يطلب الإناث لوجود الذكور مثلًا، وهناك من سيطلب الإناث لأن الأب يكون عنده مرض ينتقل إلى الذكور ولا ينتقل إلى الإناث، خاصة إن كان هذا المرض يحدث عاهات أو تخلفات عقلية، إضافة إلى أن أفضل نتائج مراكز تحديد نوع الجنين لا تتجاوز نسبة 50%.
وإذا قيل: إنَّ هذا فيه تغيير وتبديل لخلق الله.
قلنا: إِنَّه ليس في التحديد تغيير؛ فالتغيير يكون بعد التحديد، وهنا قد تم التحديد ابتداء.
وإذا قيل: إن هذا يؤدي إلى اختلاط الأنساب.
قلنا: إننا نوصي بأن يتم التحديد بالضوابط الشرعية.
وإذا قيل: إن هذا عبث، وهو لا يجوز فعله.
قلنا: إن العبث ما فُعل دون فائدة، وهذا قد أثبتنا فائدته، والحاجة إليه واقعًا وشرعًا.
والخلاصة: أن هناك فارقًا في الحكم بين تحديد نوع الجنين على المستوى الشخصي وعلى المستوى الجماعي؛ وذلك بناءً على ما هو مقرر شرعًا من اختلاف الفتوى باختلاف تعلق الحكم بالفرد وتعلقه بالأمة، وهذا نجده كثيرًا في كتب الفقه.