غضبة فرنسية عاصفة !
اتفقت أستراليا مع فرنسا عام ٢٠١٦ على تصنيع ١٢غواصة تعمل بالوقود التقليدي وبالكهرباء، وتم توقيع عقود بين الدولتين بقيمة ٥٦ مليار يورو (وفي تقرير للبي بي سي أن المبلغ ٦٦مليار يورو)، فيما أعتبر وقتها صفقة العصر. وفجأة أعلنت كانبيرا، قبل أيام معدودة أنها ألغت الاتفاق مع باريس، ودخلت في شراكة دفاعية أمنية مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة، وبالفعل تم توقيع اتفاق، تبني أمريكا بمقتضاه ٨غواصات على الأقل وزادت بأنها تعمل بالدفع النووى، مع تعزيز القدرات المشتركة للدول الأنجلو الثلاثة وإمكانية التشغيل العسكرى فيما بينهم. وقضى الإتفاق أيضا بالدفاع السيبراني والتعاون في الذكاء الاصطناعي.
أطلق علي الاتفاق اسم AUXUS وتنطق AUKISSكما نصحت شبكة CNN.ثارت ثائرة الحكومة الفرنسية، وسحب وزير الخارجية اودريان سفيري بلاده من واشنطن ومن كانبيرا، وإتهمت فرنسا أمريكا وأستراليا وبريطانيا بالخيانة وبالغدر.. طعنة في الظهر من الحليف !
من ناحيتها قالت أمريكا أنها أطلعت فرنسا مسبقا علي إلغاء الصفقة وبناء الشراكة الأمنية العسكرية الجديدة في المحيطين الهادي والهندي، وهو ما كذبته الخارجية الفرنسية. بذلك تعتبر إدارة بايدن لم تقل الحقيقة. لكن حكومة أستراليا قالت إنها تململت من شهر يونيو الماضي من التأخيرات في التصنيع الفرنسي. هذه إشارات إنسحاب مبكر، تنم عن إنحراف عمدي في زاوية التعاقد.
أيا ماكان الذي جرى، فسوف تكون له مضاعفاته التى ستتكشف يوما بعد الأخر رغم جهود الاحتواء التى تبذلها واشنطن. بل إن فرنسا ألمحت إلى تعطيل اتفاق التجارة الحرة بين كانبيرا والإتحاد الأوربي بسبب عدم الثقة في تعهدات الحكومة الاسترالية.
الصراع في الباسيفيكي
هل إلغاء صفقة الغواصات السبب المباشر أم كان آخر وأخطر الأسباب ؟ واقع الأمر أن التوتر علي جانبي الأطلنطي لم ينته مع زوال حكم ترامب الذي عامل القارة الأوروبية بإستهانة وبإستنزاف لمواردها.. بحجة أنه يوفر لها مظلة دفاع استراتيجية في مواجهة صواريخ روسيا، وعليها أن تدفع الثمن. صحيح أن بايدن هرول لرأب الصدع، وإعادة الدور الأمريكي للصدارة بترميم العلاقات التى إهترأت في عهد ترامب، لكنه خسر كل ما بناه من ثقة بالهرولة لحد الفوضى هربا من أفغانستان، وجعل قوات الحلفاء في مشهد بائس مخز، وهي تفر خوفا من حكومة عصابات إرهابية.
ما نفذه بايدن وسوف يمضي فيه هو نقل الصراع إلى الباسيفيكي، حيث العدو الرئيسي حاليا للولايات المتحدة.. الصين. في هذا السياق يمكن فهم تفكيك القوة الأمريكية وسحبها من العراق ومن الخليج والتوجه إلى أقصى الشرق.. حيث بكين تتعملق عسكريا وتكنولوجيا وفيروسيا، وتتمدد في بحر الصين الجنوبي، وحيث بايونج يانج تنجح في إطلاق صواريخ باليستية، وحيث التنسيق الدفاعي مع موسكو بلغ مستويات منذرة بالخطر لواشنطن.. ولعل هذا يوضح خلفية تصريح انتوني بلينكن وزير خارجية بايدن أن روسيا قوة عسكرية كبيرة للغاية وينبغي التفاوض معها.. وقبل ثلاثة أيام أجرت كوريا الجنوبية، بدورها، تجربة صاروخية ناجحة..
اليابان تتابع في قلق إعادة عسكرة المنطقة.. لكنها عسكرة توفر لها الردع في مواجهة الصين وكوريا الشمالية.. وكما قلنا -هنا- من قبل فإن أمريكا. تنقل نشاطها أقصي الشرق.. وتسحب قدميها من الشرق الأوسط، وكل أياديها ملطخة بالدماء.. وعلى رأسها العار..
هذا كله تفهمه فرنسا التى قرأت المشهد الإنسحابي مبكرا فدعت إلي بناء قوة دفاعية أوروبية واحدة لمواجهة التغيرات والتقلبات، والحفاظ علي إرادة سياسية أوروبية مستقلة.
نقطة إستقلال القرار أو التوجه الأوربي تظهر في تباين موقف الإتحاد الأوربي وواشنطن نحو بكين. أوروبا تراها صديقا تجاريا يمكن إحتواؤه.. ولا يجب معاداته.. وواشنطن يزعجها أن تتعدد الرؤوس المناطحة لها.
ما تفعله أمريكا.. سكرات غروب إمبراطورية.. الموت بطئ.. لكن دورة الحضارات حتمية.. ومجربة.