رئيس التحرير
عصام كامل

أرصفة المدن تحت الاحتلال

ما زلت على يقين أن «الرصيف» قضية صحية ورياضية وأخلاقية وجمالية، والدول التى ترى أن الأولوية للسيارات بدلا من المشاة تدفع ثمنا باهظا من قيم الجمال، وتدفع فواتير صحية لا قِبَل لها بها. وما زلت على يقين أيضا أن «الرصيف» واحد من مستنقعات الفساد فى بلادى، وما زلت أتذكر مرافقا شابا ألمانيا قال لى أثناء إحدى رحلاتى إلى برلين إن رصيفها لم يتغير منذ سنوات طويلة؛ لأننا فى ألمانيا محدودو الإمكانات. والطريف أن أرصفة برلين المزدحمة تسع آلاف المشاة، والرصيف فى أوروبا مضمار رياضي متألق تستطيع من خلاله أن "تتمشى" لمحطات، مفضلا المشى عن المترو أو الباص.

 

ورصيف القاهرة وعواصم المدن مادة ثرية للفساد، إذ إن المحليات -بما سكنها من وحش الفساد- تغير أرصفتها كل عامين أو كل عام، يتبدل الرصيف وهو كما هو اختبار للمشاة على القفز والسقوط بما يحتويه من حفر وارتفاعات وانخفاضات. والرصيف فى بعض المناطق أعجوبة الأعاجيب، فقد تراه وقد بلغ ارتفاعه لأكثر من سبعين سنتيمترا، والمطلوب من المشاة الاحتفاظ بسلم خشبى أو معدنى لصعوده.

 

وأتحدى من يدلني على رصيف بلا إشغالات، فأصحاب المحال يرون فى الرصيف "كمالة للمحل"، ويستغلونه أسوأ استغلال، والملايين التى تنفقها المحليات على الرصيف تكفى لأن تكون ميزانيات لدول صغيرة. وليس للرصيف فى مصر معايير أو مواصفات، فبعد تركيب الرصيف عادة ما يتذكرون خطوط الكهرباء أو المياه أو الغاز فيحفرونه مرة أخرى ويتركونه «اختبار قوة» للمشاة. وأتصور أن إسناد رصيف المدن الكبرى للهيئة الهندسية حل جذرى لمواجهة فساد المحليات، إضافة إلى أن الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة لا تقدم عملا دون المستوى، وتراعى المعايير الدولية فى كل ما تقوم به.

 

أقول ذلك بعد غلبة السيارات وجور المركبات على حق المشاة، وأرى الأمثلة أكثر من أن تحصى، والمحليات لا ترى فى الرصيف إلا كنزا للسرقة واللصوصية ونهب المال العام. على سبيل المثال كورنيش النيل بالمعادى.. تقرر احتلال الرصيف من الكافيهات التى تتراص على النيل وقد ابتنت أسوارا لسجن النهر، ولم يعد للمشاة مساحة يتريضون بها.

حق المشاة

 

«كورنيش البحر الأعظم» ترتكب فيه أكبر جريمة بعد أن تقلص لصالح الأسفلت والسيارات، وعلى امتداده كورنيش شارع النيل وصولا إلى العجوزة والمهندسين، لا وجود لحق المشاة على الإطلاق. فى مدينة المنصورة -التى كانت قبل ذلك مدينة بهية- لا رصيف، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى وهم يتقافزون بين السيارات والتكاتك والدراجات البخارية وكأنهم فى جبلاية قرود.

 

فى الفيوم التى كانت رئة للقاهرة.. لا رصيف ولا "دياولو" فالزائر لها حديثا يدرك كم ارتكبت جرائم فى حق جمالها وهدوئها ورصيفها وحق الناس على الأرض. والحل الذى لا بديل عنه أمام الناس أن يضعوا أنفسهم داخل السيارات أو التكاتك أو الأتوبيسات.. لا مكان للمشى.. والنتيجة سمنة تسيطر على صحة المصريين وحالة من القبح تحاصرهم.

 

وإذا كان العالم المتقدم يرفع شعار «المشاة ملوك الشوارع» فإن الأمر لدينا يختلف اختلافا كبيرا، فلا حق للمشاة.. حقهم الوحيد الموت تحت عجلات السيارات أو الحبس داخل سيارات الأجرة غير الآدمية. ولأن المواطن لا يجد له مكانا فى الشارع فإنه يتعرض للضغوط والأمراض، وتسيطر عليه سلوكيات الزحام من عنف وقتل وكراهية لكل ما هو جميل، ففاقد الشيء لا يتعاطى معه ولا يعطيه.

 

الرصيف يا سادة مساحة للحرية والأمان والرياضة والتنفيس عن النفس وممارسة التأمل ومواجهة ضغوط الحياة.. حتى المدن الجديدة أكلت حدائقها وأرصفتها ولم تعد جديدة.

 حرروا الرصيف من المحليات، وسلموه للهيئة الهندسية وستعرفون كم وفرنا من أموال، وستدركون أن للرصيف معايير وفوائد لا تتوقف عند حدود راحة الناس فى الشوارع، بل تمتد إلى الصحة النفسية والبدنية، وإلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

الجريدة الرسمية