لا تجلدوا شوقى غريب
كنت على يقين أن شوقى غريب سيصنع شيئا ما في طوكيو، وأنا عكس كل من تعاطوا مع خروج منتخب مصر أمام البرازيل باعتبارها انتكاسة كبرى، ومن ثَم انطلاق هجمة غير مبررة ضد شوقى غريب. فى مجموعة نارية تضم الأرجنتين وإسبانيا وأستراليا يصعد شوقى بمنتخبه رغم كل التوقعات التى أثارها النقاد والمتابعون، ولم يكن العبور إلى الدور الثانى هو الشيء الذى توقعته من كابتن شوقى غريب.
المتابع لشوقى غريب يدرك أنه أمام حالة تدريبية خاصة، أنا لست ناقدا رياضيا محترفا، ولكننى أتصور أننى مثل أي مصرى يتذوق هذه اللعبة الشعبية التى تأخذنا إليها كما لو كانت نداهة يوسف إدريس.. شوقى غريب تستطيع الحكم عليه دون أن تعرف شخصيته.. هو مغامر جريء ويرى فى نفسه وفى فريقه أنه ليس أقل من غيره، ولا يصاب مثل كثيرين بداء «الخضة»!
وشوقى غريب قارئ جيد لمجريات المباراة التى يخوضها، ويضع يده بعد لحظات على موقع الداء، ويعلِّم أولاده أول ما يعلِّم الجرأة، ويزرع فى نفوسهم الثقة، ويرى أنهم ليسوا أقل من فرق الكبار. ومن أراد الحكم على شوقى غريب لا يجب أن يفصله عن واقع الكرة فى بلاده، فهو لا يعزف منفردا، ولا يستطيع أن يصنع فريقا من الخيال.. هو شخص يعيش واقعا ربما لم يصنع فيه شيئا.
بكلمات أخرى، ما هى "القماشة" التى يحيكها شوقى غريب، وما هو مصدر صناعتها، وكيف يستخلص فريقا من واقع نعرفه جميعا بكل ما يحمل من تفاصيل فاسدة تتشابه إلى حد كبير مع مجتمعنا. أذكر أن وزيرا للتعليم فى الحقبة الناصرية تعرض لموقف مدهش أثناء توليه الوزارة، قام رئيس الوزراء بزيارة إحدى المدارس، وطلب من أحد الطلاب أن يكتب شيئا على السبورة، فكانت المفاجأة.. معظم التلاميذ لا يجيدون الكتابة وربما القراءة أيضا.
بالطبع وبخ رئيس الوزراء وزير التعليم، وانتظر الناس رد الوزير، قال الوزير: معالى دولة الرئيس.. أنت تظن أننى فى المدارس أعلم الأولاد القراءة والكتابة؟! وأضاف وسط دهشة الجميع: هنا يا معالى الرئيس وفى كل الريف أدفع المدرسين لمطاردة أولياء الأمور والضغط عليهم لجلب أبنائهم إلى المدارس.. وهنا يا معالى الرئيس يأتى الأولاد إلى المدارس حفاة ولم يحظوا بنوم كاف؛ لأنهم باختصار ينامون على أرض باردة فى شتاء قاس.
الفساد وجرأة شوقى غريب
وأردف قائلا: هنا يا معالى الرئيس يفتقد الأولاد إلى التغذية السليمة.. مصابون بالأنيميا.. يسقطون منا فى طابور الصباح.. نقوم بتغذيتهم ونحاول إقناع أولياء الأمور أن يتركوا لنا أبناءهم بدلا من دفعهم إلى الحقول للمساعدة. وقال الوزير: أنت مخطئ يا معالى الرئيس إن تصورت أننى وزير للتعليم.. أنا هنا أحرر الأولاد من ظروفهم وحياتهم وقسوة الزمن عليهم.
سكت الوزير، ولم يرد رئيس الوزراء، فَهِم رئيس الوزراء أن المسئولية على الجميع وليست على وزير يقاتل وحيدا، وأدرك أن فاتورة الحساب قديمة قدم الظرف والمناخ والعادات.
أعود إلى شوقى غريب وأقول إن المناخ المحيط والظروف التى تعانى منها كرة القدم وصناعتها فى بلادنا لا يمكن أن تنتج حريرا وأنت تغذيها بالخيش، والخيش هو الفساد بكل تفاصيله. جرأة شوقى غريب جعلتنا نطمع فيما حققه من قبل بميدالية برونزية أو مركز متقدم نفخر به مع إنجازاتنا الأخرى التى تتحقق فى مناحٍ كثيرة من حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، وليس من بينها بالطبع «السياسية».
كرة القدم حالة وسط مناخ ملبد بالغيوم.. مناخ سكنته وحوش الفساد وترفض الاعتزال.. كرة القدم شأن مثل كل شئوننا التى اعتلى فيها الأقزام كراسى الإدارة والنظارة والاستفادة والاستغلال والانتهازية وكل صنوف الفساد المقنن والمقنع والباقى حتى يأذن الله بثورة رياضية تنفض عنها غبار الملل والعلل.
وأخيرا وليس بآخر أقول: شكرا كابتن شوقى غريب وشكرا لكل معاونيك.. شكرا لأن جرأتك جعلتنا نطمع فى القفز فوق الواقع المرير.. شكرا لأنك قدمت بلادنا فى واحدة من أبهى صورها رغم كل الظروف.