مدينة لا تعرف الألوان
أعيش في مدينة لا
تعرف الألوان. كل شيء هنا رمادي.. البيوت والشوارع وحتى البشر، ورغم أن الجميع –الناس
والأشياء– متشابهون، إلا أنه يمكنك وبسهولة أن تميز بيننا، ولا يمكن لعينك أن تخطئ
ولو لمرة واحدة واحدًا منا، حتى وإن تدثر في رداء يغطيه من أعلى رأسه لأسفل قدميه.. في هذا المدينة،
هجرتنا الأنهار والبحار، إذ تسير الأسماك في شوارعنا جنبا إلى جنب مع البشر وباقي المخلوقات
الرمادية، كما أنها تختلف عن الأسماك التي تعرفونها أنتم، فهي تمتلك ذاكرة قوية تمتد
بطول العمر.
وإذا ما ألقى أحدهم بطُعم إلى أي من هذه الأسماك فإن واحدة منها حتما ستلتقطه وتبدأ في التهامه في ثقة تامة، غير أنها إذا ما وجدت أنه ليس طعاما بل طُعم ستلفظه قبل أن يدخل جوفها، ولا تخشى شيئا فهي لن تهاجمك جزاءً لمحاولتك الرخيصة في اصطياد سمكة آمنة تسير في الشوارع إلى جوارك، لكنها في المرات القادمة – ومهما حاولت – لن تقترب من أي طعام تقدمه لها حتى وإن تيقنت هي من أنه طعاما وليس طُعما مربوطا بخيط غير مرئي.
حقيقة رقم 1: الأسماك ذات الذاكرة الحديدية طيبة ولا تعرف الانتقام، لكنها لا تأمن لهؤلاء الذين يغدرون بها ولو لمرة واحدة.
قبل عشر سنوات حاولت اصطياد سمكة. اختبئت خلف صخرة رمادية، فهجمت عليها ملقيا شبكتي، غير أنها استطاعت وبكل سهولة أن تنفد من عين واسعة، لكنها لم تتحرك. لم تحاول الهرب. بقيت مكانها وهي تنظر إلى في رضا.. حينها ماتت رغبتي في اصطيادها.
وتجاهلتني سمكتي
حقيقة رقم 2: ليست هناك متعة في الإمساك بسمكة لا تبدي أي مقاومة أمام صيادها، خاصة إذا لم يكن يصطاد ليأكل أو ليبيع، بل يفعل ذلك لمتعة خالصة تزيدها المقاومة شغفا ورغبة.. دفعني ذلك إلى أن اسأل السمكة الرمادية، التي تشبهني وتشبه الشارع والمباني المجاورة لنا، عن سبب انزراعها في الأرض وعدم محاولتها الفرار مني بعدما أفلتت –بدون قصد– من عين الشبكة الواسعة.
وقبل أن ترد – إذ أنه في مدينة مثل مدينتنا يمكن للأسماك أن تتحدث بلغة مفهومة– تخيلت أن يكون جوابها هو أنها لم تعد ترغب في هذه الحياة المملة، لهذا استسلمت، لكنها لم تقل ذلك، بل لم تفتح فمها بتاتا.
وربما كان صمتها هو ما دفعني إلى أن أصفعها بيدي انتقاما، بعد أن تجاهلتني.. وربما لا يكون ذلك السبب الحقيقي، فأنا اشعر بخيط –لا تراه عيني- يربط ما بين هذه السمكة وتلك العاهرة التي التقطها ليلة منتصف الصيف الماضي..
أكاد أرى المشهد حيا أمامي الآن: فتاة بجسد فقير، تختفي ملامحها الرمادية تحت مساحيق رخيصة، تلوك في فمها -بدلال مصطنع- «لبانة» من تلك الأنواع الرخيصة أيضًا، عرفت ذلك من صعوبة عملية المضغ رغم محاولتها إخفاء ذلك..
ألوح لها بالرغبة في عيني، فتأتيني وهي تبصق ما في فمها –يبدو أن مهمة اللبانة قد انتهت – فتركب السيارة إلى جواري دون حديث..
ملاحظة: توقعت أن تفاصلني في السعر لكنها لم تفعل.
ننطلق بالسيارة، بينما تواصل هي الصمت.. أضع يدي علي ساقها ولا تبدي هي اهتماما.. أغنية رخيصة.. ضجيج المترجلين.. كلاكسات.. نظرات الناس في السيارات المارة إلى جوارنا.. ضحكاتهم وغمزاتهم المغلفة بالتلميحات.. أضواء الشاشات الكبيرة.. إعلانات الكمبوندات.. أطفال يبيعون الورد المسجون في أغلفة بلاستيكية.. مشردون.. حادث سير.. دماء.. صمت. كل ذلك لا يلفت انتباه فتاتي. نصل إلى المنزل.
تُسقط ملابسها كمن ينفض عن نفسه الغبار دون أن تحرك عضلة واحدة في وجهها الجامد، ثم تتلاشى مخلفة كومة من الرماد..
وإذا ما ألقى أحدهم بطُعم إلى أي من هذه الأسماك فإن واحدة منها حتما ستلتقطه وتبدأ في التهامه في ثقة تامة، غير أنها إذا ما وجدت أنه ليس طعاما بل طُعم ستلفظه قبل أن يدخل جوفها، ولا تخشى شيئا فهي لن تهاجمك جزاءً لمحاولتك الرخيصة في اصطياد سمكة آمنة تسير في الشوارع إلى جوارك، لكنها في المرات القادمة – ومهما حاولت – لن تقترب من أي طعام تقدمه لها حتى وإن تيقنت هي من أنه طعاما وليس طُعما مربوطا بخيط غير مرئي.
حقيقة رقم 1: الأسماك ذات الذاكرة الحديدية طيبة ولا تعرف الانتقام، لكنها لا تأمن لهؤلاء الذين يغدرون بها ولو لمرة واحدة.
قبل عشر سنوات حاولت اصطياد سمكة. اختبئت خلف صخرة رمادية، فهجمت عليها ملقيا شبكتي، غير أنها استطاعت وبكل سهولة أن تنفد من عين واسعة، لكنها لم تتحرك. لم تحاول الهرب. بقيت مكانها وهي تنظر إلى في رضا.. حينها ماتت رغبتي في اصطيادها.
وتجاهلتني سمكتي
حقيقة رقم 2: ليست هناك متعة في الإمساك بسمكة لا تبدي أي مقاومة أمام صيادها، خاصة إذا لم يكن يصطاد ليأكل أو ليبيع، بل يفعل ذلك لمتعة خالصة تزيدها المقاومة شغفا ورغبة.. دفعني ذلك إلى أن اسأل السمكة الرمادية، التي تشبهني وتشبه الشارع والمباني المجاورة لنا، عن سبب انزراعها في الأرض وعدم محاولتها الفرار مني بعدما أفلتت –بدون قصد– من عين الشبكة الواسعة.
وقبل أن ترد – إذ أنه في مدينة مثل مدينتنا يمكن للأسماك أن تتحدث بلغة مفهومة– تخيلت أن يكون جوابها هو أنها لم تعد ترغب في هذه الحياة المملة، لهذا استسلمت، لكنها لم تقل ذلك، بل لم تفتح فمها بتاتا.
وربما كان صمتها هو ما دفعني إلى أن أصفعها بيدي انتقاما، بعد أن تجاهلتني.. وربما لا يكون ذلك السبب الحقيقي، فأنا اشعر بخيط –لا تراه عيني- يربط ما بين هذه السمكة وتلك العاهرة التي التقطها ليلة منتصف الصيف الماضي..
أكاد أرى المشهد حيا أمامي الآن: فتاة بجسد فقير، تختفي ملامحها الرمادية تحت مساحيق رخيصة، تلوك في فمها -بدلال مصطنع- «لبانة» من تلك الأنواع الرخيصة أيضًا، عرفت ذلك من صعوبة عملية المضغ رغم محاولتها إخفاء ذلك..
ألوح لها بالرغبة في عيني، فتأتيني وهي تبصق ما في فمها –يبدو أن مهمة اللبانة قد انتهت – فتركب السيارة إلى جواري دون حديث..
ملاحظة: توقعت أن تفاصلني في السعر لكنها لم تفعل.
ننطلق بالسيارة، بينما تواصل هي الصمت.. أضع يدي علي ساقها ولا تبدي هي اهتماما.. أغنية رخيصة.. ضجيج المترجلين.. كلاكسات.. نظرات الناس في السيارات المارة إلى جوارنا.. ضحكاتهم وغمزاتهم المغلفة بالتلميحات.. أضواء الشاشات الكبيرة.. إعلانات الكمبوندات.. أطفال يبيعون الورد المسجون في أغلفة بلاستيكية.. مشردون.. حادث سير.. دماء.. صمت. كل ذلك لا يلفت انتباه فتاتي. نصل إلى المنزل.
تُسقط ملابسها كمن ينفض عن نفسه الغبار دون أن تحرك عضلة واحدة في وجهها الجامد، ثم تتلاشى مخلفة كومة من الرماد..