رئيس التحرير
عصام كامل

شريط كاسيت أم شريط ترامادول

قبل عشرين عامًا كنت طفلًا استقل الميكروباص بصحبة والدتي من منزل جدتي إلى منزلنا.. الطريق قرابة العشرين دقيقة فقط لكنها دقائق من العذاب التي يتحملها الركاب في الاستماع الإجباري إلى شريط كاسيت يصرخ أحدهم خلاله متوعدًا الناس بالموت والعذاب والقبر والجحيم.. دقائق من الترهيب والصريخ كانت هي السمة المميزة لعالم الميكروباصات في التسعينات وبدايات الألفينات هؤلاء السائقين الذين أدمنوا جميع أنواع الشرائط.. شرائط الترامادول التي تغييب العقل، وشرائط الكاسيت التي تحمل أصوات مٌنفرة وكلمات ينطقها جهلة قادرة على تفريخ حشود من المتطرفين.


أما الآن فقد ظهرت بوضوح نتائج ما صنعته حناجر شيوخ الكاسيت ومن على شاكلتهم.. في محكمة جنايات القاهرة وخلال محاكمة المتهمين في قضية داعش إمبابة لم يكن من بداخل القفص هم أبطال الجلسة إنما ذلك العجوز الجالس على مقعد الشهود.. الرجل الذي اتبع المتطرفين أفكاره عند ارتكاب جرائمهم لكنه تخلى عنهم خلال الشهادة ليصفهم بالجهلة.

كانت هذه الجلسة كاشفة لمحمد حسين يعقوب الذي بدأ مسيرته بعد حصوله على دبلوم معلمين، لم يكن ليؤهله لاعتلاء منابر المساجد أو الحديث في أمور الدين، لكنه بدأ دعوته الفاسدة في زمن الرئيس المؤمن الذي سمح لأمثاله بالخروج من الجحور ونشر فيروساتهم للمجتمع.
انكشف محمد حسين يعقوب الذي صرح بعدم علمه للكثير من الأمور أو أهليته أصلًا للحديث في الدين.. تخلى عما كان يعتنقه ويدعو الناس إليه ليُظهر لنا نموذجًا عن الفارق بين صاحب المصلحة وصاحب المبدأ، فالأخير لا يتخلى عن أفكاره مهما كانت الظروف..

أصحاب المبادئ
رأينا الكثير من المواقف التي تمسك خلالها أصحاب المبادئ بقضيتهم في أحلك الظروف.. صدام حسين وهو في السبعين من عمره اقتادوه لحبل المشنقة التي واجهها بشجاعة ساخرا من خصومه.. هتلر إنتحر وأمر بحرق جثمانه حتى لا ينال منه الحلفاء بدلًا من الهرب من برلين المدمرة.. قادة الانقلاب الشيوعي في السودان في يوليو 1971 واجهوا الإعدام بشجاعة ولم يتراجعوا عن مواقفهم.. جيفارا أخبر من يطاردونه بهويته لإنقاذ رفاقه ولم يهرب وواجه الموت.

قوميون.. نازيون.. شيوعيون.. ثائرون.. أيًا كان التوصيف أو المذهب أو الهوية.. أيًا كان اللون أو القومية أو الطائفة أو الدين ستجد دائمًا أصحاب المبادئ يتمسكون بمواقفهم في أصعب الأوقات عملًا بكلمة أحمد شوقي (فلو أن رسل الله قد جبنوا.. لما ماتوا على دين من الأديان).. الجميع يتمسك بإيمانه ومبادئه مهما كانت الضغوط إلا الإخوانجية والسلفيين وأرامل البنا الذين يجيدون جميع فنون التخفي و"التقية".

خلال شهادته كاد محمد حسين يعقوب أن يتراجع لدرجة أن يُعلن للجميع إنه مناصر للحريات ومدنية الدولة.. يكاد أن ينطق بأنه يؤمن بالديمقراطية، وتداول السلطة، وحرية العبادة.. ويبقى الخطأ الأكبر ليس في أمثال محمد حسين يعقوب ممن تربحوا لعقود طويلة، مما قدموه من أفكار متطرفة، لكن الخطأ الأكبر على من اتبعوه ودمروا حياتهم وأفسدوا مجتمعاتهم بالاستماع إلى أمثاله.
الجريدة الرسمية