حكايات بطعم غزل البنات
تحوي قلوبنا الكثير
من الخزائن الصغيرة نخبئ داخل كل واحدة منها حكاية غير مكتملة، تلك الحكايات التي لم
نذق منها سوى بدايات بطعم نزق الطفولة الخالصة، والتي تشبه حلوى غزل البنات بحجمها
المراوغ وحلاوتها المفرطة، حكايات ذابت بين أيدينا ولم يبق منها سوى السكر.. بالأمس
فتحت خزانة فوجدت داخلها ابتسامة طفلة كنت قد لمحتها قبل ثلاثين عاما على الرصيف بينما
القطار الذي كنت استقله يغادر المحطة، لم يستغرق الأمر سوى ثلاث ثوان قبل أن يختفي
وجهها المليح.. فكرت في أن ألقي بابتسامتها من شباك القطار كي لا أتعلق بها، لكن قوة
خفية داخلي أمرتني أن أحتفظ بها لعلي يوما أقابل فتاتي فأعيد لها ابتسامتها وتعيد لي
ملامح وجهي التي اختفت مذاك.
كائن عابر للزمن
قالت لي طفلتي ذات الخمسة أعوام وهي تمط شفتيها: في حياة سابقة وفي عالم آخر كنت أنا أمك ولم أبخل عليك يوما بشيء حتى أنني منحتك قرطي الذهبي لتشتري بثمنه بعض الكتب، أما الآن فأنت ترفض أن تعطيني قطعة الشيكولاتة بدعوى أنك تخاف على أسناني من التسوس، مع أنك تعلم أنها مجرد أسنان مؤقتة حتما ستسقط وستنبت مكانها أسنان أخرى..
قلت لها: هل تكذبين وتلفقين قصة من أجل قطعة شيكولاتة؟!
فصاحت: لا لا ليس الأمر كذلك، أنا لا أكذب، ولأؤكد صدقي سأخبرك ببعض من أسرارك.. هل تتذكر سائق الشاحنة الذي سرق منك الكرة التي كنت تلعب بها حين كنت طفلا، ثم ضربك وكسر لك أسنانك الأمامية بضربة من يده!!
انتابتني دهشة ممزوجة بالفزع، حين سمعت ذلك، فهذه الواقعة حدثت بالفعل غير أنني لم أخبر أحدا بها، وظلت سرا لم يغادر صدري.. حتى أنني لم أخبر أمي بها..
منحت ابنتي قطعة الشيكولاتة الكبيرة، فأخذتها وهي تبتسم ثم همست في أذني: في الحياة القادمة إذا اصبحت أمك مرة أخرى سأقطع رقبتك وأمنح رأسك لسائق الشاحنة كي يلهو بها..
تجاوز الأمر حدود الدهشة، فهذه ليست مجرد طفلة، بل كائن عابر للزمن يتجول في الماضي والمستقبل وعلي أن أنتبه لكل كلمة تقولها وأتعامل معها بجدية، لهذا سألتها وجسدي يرتجف: ولماذا ستفعلين ذلك يا أمي؟
قالت وهي تضحك: لأن سائق الشاحنة هو أنت، هو ذاتك التي تنكرت لها حين كنت قائدا للجيوش في واحدة من حيواتك السابقة..
أكلت ابنتي قطعة الشيكولاتة على دفعة واحدة، ثم تلاشت كالدخان، بينما بقيت أنا أعد الأسنان المتبقية في فمي، وأربت على كتفي مواسيا نفسي.
أمي الصغيرة
ابنتي أخبرتني أنها أمي الصغيرة، واقترضت مني عشرة جنيهات لتشتري حصالة تضع فيها كل يوم جنيها، إلى أن تمتلئ علبتها بالنقود التي تكفي أن تشتري لي بيتا بجنينة صغيرة، وقميصا، وسيارة، ووعدتني أن تطهو لي كل يوم وأن تعد لي شايا لم أشرب مثله في حياتي، كما أنها سوف تهدهدني كل ليلة إلى أن أنام وهي تحكي قصصا ألفتها من أجلي.
من أجل كل ذلك، أحلم بأن أكبر في السن للدرجة التي تجعلني طفلا، فأصير ابنها وتصير هي أمي.
خمسة عشر سنتيمترا فقط
خمسة عشر سنتيمترا فقط، هي الحبل السُّري الذي يبقي وائل بأعوامه الخمسة عشر على اتصال بالعالم.
شباك قديم في بدروم معتم ورطب يطل على الشارع الكبير، يمسك الصبي في قضبانه الحديدية ليتمكن من مغادرة كرسيه المتحرك، ولو للحظات، ليتنسم بعض الهواء حتى وإن كان مغبرا بالعفرة التي تثيرها أقدام المارة بأحذيتهم المختلفة.
لا يتذكر الصغير آخر مرة طالع فيها وجها غير وجه أمه، التي تخرج كالطير صباحا لتعود له بفتات الخبز في آخر اليوم، فتطعمه وتلقي بجسدها المتعب إلى الحصيرة المفروشة على الأرض، أملا في بعض النوم استعداد ليوم جديد/ قديم متكرر.
يراقب وائل الشارع، ويعرف الناس من أحذيتهم، فهذا رجل فقير ينتعل حذاء يئن في قدميه، وتلك شابة على موعد مع حبيبها تتعثر في الكعب العالي، أما ذلك القادم من بعيد فيمكن أن يسميه بيه بحذائه اللملمع دوما، ثم هذه طفلة تلبس في قدميها كوتشي أزرق من ماركة رخيص ما يشي بأنها في طريقها إلى المدرسة القريبة، إذ أن ذلك الكوتشي جزءا من اليونيفورم.
والمدرسة تلك، كانت مدرسته قبل خمسة أعوام، فبعد وفاة أبيه موظف السكة الحديد، أمام عينيه، إذ جمعتهما حادثة قطار واحدة، لكن الصغير نجا بقدمين مشلولتين، اضطرت الأم لإخراج إبنها من دوامة التعليم، فليس لديها من المال ما يكفي للإنفاق على الدروس والكراريس والأقلام، كما أنه لم يعد قادرا على الذهاب بمفرده، وإما أن تعمل هي أو تتفرغ لصغيرها ومدرسته.
قبل أسبوع، سقطت قطعة نقود من بين يدي صبية قرب شباك البدروم، فانحنت لتلتقطها، حينها لمحت عينا وائل عينيها، فأحس بخيط من نور يسري في روحه، وكأنه طفل يرى العالم للمرة الأولى في حياته.
انتابته دهشة لم يختبرها من قبل، وكأن شعاع من عينيها تحول إلى فاكهة سحرية لا تنبت إلا في بلاد العجائب. لم يدوم الأمر إلا للحظة، لكنها لحظة واحدة بأعوام مما تعدون، بل كانت تلك اللحظة هي الحياة التي لم يعشها منذ الحادثة التي أودت بأبيه ونصفه.
اعتدلت الفتاة بعدما التقطت نقودها، ومضت مبتعدة بحذائها البني الذي لم يرى وائل مثله، منذ بدأ يراقب العالم عبر أحذية سكانه. مرت الأيام ووجد وائل شيئا يشغله، ويؤنس وحدته، فلم يعد يرى إلا حذائها البني حين تمر من أمام شباك البدروم كل صباح في طريقها إلى المدرسة، غير أن ذلك لم يكن كافيا، فالشغف داخله يتصاعد كالبخار من المراجل.
وذات صباح، مد وائل يده إلى خارج الشباك، لعلها تلمس يد تلك التي أدهشته بنظرتها، فكل ما حلم به هو سلاما تلامس فيه أصابعه أصابعها، ليتأكد من أنه ما زال حيا. مد يده طويلا إلى أن أتت فتاته فوضعت في كفه الخشن شيئا ومضت. حين لمست راحته راحتها رأى الدنيا فرسا يحلق في السماء بجناحيه، وسريعا سحب يده فوجد فيها قطعة نقود!
في اليوم التالي، مرت الفتاة قرب الشباك، فوجدته مسدودا بلوح من الخشب. قطع وائل الحبل السري بينه وبين العالم، ولازم كرسيه الذي استقر في أكثر ركن مظلم في البدروم.
كائن عابر للزمن
قالت لي طفلتي ذات الخمسة أعوام وهي تمط شفتيها: في حياة سابقة وفي عالم آخر كنت أنا أمك ولم أبخل عليك يوما بشيء حتى أنني منحتك قرطي الذهبي لتشتري بثمنه بعض الكتب، أما الآن فأنت ترفض أن تعطيني قطعة الشيكولاتة بدعوى أنك تخاف على أسناني من التسوس، مع أنك تعلم أنها مجرد أسنان مؤقتة حتما ستسقط وستنبت مكانها أسنان أخرى..
قلت لها: هل تكذبين وتلفقين قصة من أجل قطعة شيكولاتة؟!
فصاحت: لا لا ليس الأمر كذلك، أنا لا أكذب، ولأؤكد صدقي سأخبرك ببعض من أسرارك.. هل تتذكر سائق الشاحنة الذي سرق منك الكرة التي كنت تلعب بها حين كنت طفلا، ثم ضربك وكسر لك أسنانك الأمامية بضربة من يده!!
انتابتني دهشة ممزوجة بالفزع، حين سمعت ذلك، فهذه الواقعة حدثت بالفعل غير أنني لم أخبر أحدا بها، وظلت سرا لم يغادر صدري.. حتى أنني لم أخبر أمي بها..
منحت ابنتي قطعة الشيكولاتة الكبيرة، فأخذتها وهي تبتسم ثم همست في أذني: في الحياة القادمة إذا اصبحت أمك مرة أخرى سأقطع رقبتك وأمنح رأسك لسائق الشاحنة كي يلهو بها..
تجاوز الأمر حدود الدهشة، فهذه ليست مجرد طفلة، بل كائن عابر للزمن يتجول في الماضي والمستقبل وعلي أن أنتبه لكل كلمة تقولها وأتعامل معها بجدية، لهذا سألتها وجسدي يرتجف: ولماذا ستفعلين ذلك يا أمي؟
قالت وهي تضحك: لأن سائق الشاحنة هو أنت، هو ذاتك التي تنكرت لها حين كنت قائدا للجيوش في واحدة من حيواتك السابقة..
أكلت ابنتي قطعة الشيكولاتة على دفعة واحدة، ثم تلاشت كالدخان، بينما بقيت أنا أعد الأسنان المتبقية في فمي، وأربت على كتفي مواسيا نفسي.
أمي الصغيرة
ابنتي أخبرتني أنها أمي الصغيرة، واقترضت مني عشرة جنيهات لتشتري حصالة تضع فيها كل يوم جنيها، إلى أن تمتلئ علبتها بالنقود التي تكفي أن تشتري لي بيتا بجنينة صغيرة، وقميصا، وسيارة، ووعدتني أن تطهو لي كل يوم وأن تعد لي شايا لم أشرب مثله في حياتي، كما أنها سوف تهدهدني كل ليلة إلى أن أنام وهي تحكي قصصا ألفتها من أجلي.
من أجل كل ذلك، أحلم بأن أكبر في السن للدرجة التي تجعلني طفلا، فأصير ابنها وتصير هي أمي.
خمسة عشر سنتيمترا فقط
خمسة عشر سنتيمترا فقط، هي الحبل السُّري الذي يبقي وائل بأعوامه الخمسة عشر على اتصال بالعالم.
شباك قديم في بدروم معتم ورطب يطل على الشارع الكبير، يمسك الصبي في قضبانه الحديدية ليتمكن من مغادرة كرسيه المتحرك، ولو للحظات، ليتنسم بعض الهواء حتى وإن كان مغبرا بالعفرة التي تثيرها أقدام المارة بأحذيتهم المختلفة.
لا يتذكر الصغير آخر مرة طالع فيها وجها غير وجه أمه، التي تخرج كالطير صباحا لتعود له بفتات الخبز في آخر اليوم، فتطعمه وتلقي بجسدها المتعب إلى الحصيرة المفروشة على الأرض، أملا في بعض النوم استعداد ليوم جديد/ قديم متكرر.
يراقب وائل الشارع، ويعرف الناس من أحذيتهم، فهذا رجل فقير ينتعل حذاء يئن في قدميه، وتلك شابة على موعد مع حبيبها تتعثر في الكعب العالي، أما ذلك القادم من بعيد فيمكن أن يسميه بيه بحذائه اللملمع دوما، ثم هذه طفلة تلبس في قدميها كوتشي أزرق من ماركة رخيص ما يشي بأنها في طريقها إلى المدرسة القريبة، إذ أن ذلك الكوتشي جزءا من اليونيفورم.
والمدرسة تلك، كانت مدرسته قبل خمسة أعوام، فبعد وفاة أبيه موظف السكة الحديد، أمام عينيه، إذ جمعتهما حادثة قطار واحدة، لكن الصغير نجا بقدمين مشلولتين، اضطرت الأم لإخراج إبنها من دوامة التعليم، فليس لديها من المال ما يكفي للإنفاق على الدروس والكراريس والأقلام، كما أنه لم يعد قادرا على الذهاب بمفرده، وإما أن تعمل هي أو تتفرغ لصغيرها ومدرسته.
قبل أسبوع، سقطت قطعة نقود من بين يدي صبية قرب شباك البدروم، فانحنت لتلتقطها، حينها لمحت عينا وائل عينيها، فأحس بخيط من نور يسري في روحه، وكأنه طفل يرى العالم للمرة الأولى في حياته.
انتابته دهشة لم يختبرها من قبل، وكأن شعاع من عينيها تحول إلى فاكهة سحرية لا تنبت إلا في بلاد العجائب. لم يدوم الأمر إلا للحظة، لكنها لحظة واحدة بأعوام مما تعدون، بل كانت تلك اللحظة هي الحياة التي لم يعشها منذ الحادثة التي أودت بأبيه ونصفه.
اعتدلت الفتاة بعدما التقطت نقودها، ومضت مبتعدة بحذائها البني الذي لم يرى وائل مثله، منذ بدأ يراقب العالم عبر أحذية سكانه. مرت الأيام ووجد وائل شيئا يشغله، ويؤنس وحدته، فلم يعد يرى إلا حذائها البني حين تمر من أمام شباك البدروم كل صباح في طريقها إلى المدرسة، غير أن ذلك لم يكن كافيا، فالشغف داخله يتصاعد كالبخار من المراجل.
وذات صباح، مد وائل يده إلى خارج الشباك، لعلها تلمس يد تلك التي أدهشته بنظرتها، فكل ما حلم به هو سلاما تلامس فيه أصابعه أصابعها، ليتأكد من أنه ما زال حيا. مد يده طويلا إلى أن أتت فتاته فوضعت في كفه الخشن شيئا ومضت. حين لمست راحته راحتها رأى الدنيا فرسا يحلق في السماء بجناحيه، وسريعا سحب يده فوجد فيها قطعة نقود!
في اليوم التالي، مرت الفتاة قرب الشباك، فوجدته مسدودا بلوح من الخشب. قطع وائل الحبل السري بينه وبين العالم، ولازم كرسيه الذي استقر في أكثر ركن مظلم في البدروم.