رئيس التحرير
عصام كامل

الحمّادون

"الحمّادون" وصف لمرتبة أعلى من "الحامدون"، الذين يثنون على الله عز وجل فى السراء والضراء، فى القوة والضعف، فى الرخاء والشدة، مهما بلغ كربهم وألمهم، هم مكثري الحمد فقط لا غيره، لا يشكون همومهم وأوجاعهم إلا لربهم، هو أعلم بحالهم، وهو سبحانه القادر وحده على تفريج همومهم وكربهم.


أذكر جيدا موقف وضع لبنات القناعة والرضا فى قلبي، بعدما استشعرت قيمة الحمد والثناء على الله فى السراء قبل الضراء، والكرب قبل الفرح، إذ خرجت كلمات مفعمة بالرضا من فم شاب ابتلاه الله بكف البصر.

وجدته يمشي في أحد الشوارع المظلمة الهادئة فى ليل شتاء قارس يبيع المناديل الورقية، فبادرته بالسؤال بعد أن استوقفته للشراء، عن سبب اختياره هذا الشارع الهادئ الذي قد لا يجد به نفعا، فأجابني بأنه يخاف الزحام لأن الناس تتخبط به فيطلب ممن اصطحبه، أن يتركه فى مكان هادئ لجلب الرزق، وكله ثقة فى كرم الله، مكررا كلمة "الحمد لله على نعمته" خلال تلك الدقائق التي لم تتجاوز الثلاث، أكثر من 5 مرات.

عين الرضا
لا أزهو بهذا ولا أرمي إلى ادعاء الأفضلية وأنا أحمل من الذنوب ما تنوء به الجبال آملا من الله الغفران والعفو، بل هو واجب على كل إنسان آتاه الله نعما فى حياته، أبسطها مجرد لقيمات، ولحظات من الفرح، وأيام من الصحة والعافية، وابتلاه فى أشياء أخرى، أن ينظر دائما إلى ما ابتلى به بعين الرضا، ويتذكر أن عوض الله آت لا محالة فى موضع آخر، قد لا يرزق به غيره.

هذا رزقه الله وظيفة جيدة وابتلاه بالمرض، وآخر رزقه المال الوفير وحرمه الذرية، وثالث يظنه الناس لا يعانى وهو يمر بأشد لحظات العسر، ومع كل هذا يجتاز هؤلاء المحن بالصبر والرضا، ثم الإكثار من الحمد والابتسام وبشاشة الوجه، فتمر أوجاعهم على نفوسهم مرور السحاب الذي يأتي بالغيم لحظات ثم انقشع، وتسطع الشمس ويخرج النور والخير ويعلو الفرح.

اقتربت من هذا الشاب مكفوف البصر، الذى يقف فى ميدان عابدين، رغبة فى شراء بعض الأشياء البسيطة التي يحتاجها أولادى، وما ان اقتربت منه، سمعت همهمات، وهو ممسك عصاه البيضاء بيد، معددا على أصابعه بالأخرى، وكانت عبارة "الحمد لله" أول ما التقطته أذناي، بينما يقف منتظرا رزقه، لا يسأل الناس شيئا، فقط قناعته بالرضا على البلاء والحمد والسعي على لقمة العيش.

قيمة الحمد
قالها لى زميل العمل "حقيقة نحن فى زحام من النعم"، نعم هى حقيقة هو زحام من النعم، لو نظر كل منا إلى حياته والزوايا التى يظن أنها مظلمة، سيجد فى المقابل لها لحظات كثيرة من السعادة مرت به، ولكن دأب الإنسان إنكار النعمة وجريان النقمة.

ربما كنا فى حاجة ماسة إلى إعادة النظر فيما أعطانا الله من هدايا وابتلاءات، أن نثق فى حكمته ومشيئته، وفي أن كل سطر فى الحياة مكتوب ومقدر منذ المولد الى الممات، أن الحمد يزيد النعمة حتى لو كانت بسيطة، والنقمة تزيلها حتى لو كانت نعما كثيرة، فقد كانت أمى رحمها الله بأذنه تعالى تجبرنى دائما بعبارة موجزة "من حمده زاده يا بنى"، فاللهم اجعلنا من الحمُادون لنعمك وامتحاناتك.
الجريدة الرسمية