رئيس التحرير
عصام كامل

رحلة في عقل "إخواني" (1)

استطاعت جماعة الإخوان عبر تاريخها الممتد أن تحدث تأثيرًا كبيرًا في الواقع السياسي والاجتماعي، وهذا التأثير لا شك له عوامل ومصادر ينبع منها، قد يكون من خلال فكرتها المستمدة من الدين والذي تستطيع استغلاله جيدًا في تسويق نفسها وانتشارها، وقد يكون من خلال قدرتها على المراوغة ووجود بعض الغموض ناتج عن عدم التعبير الواضح والصريح عن أفكارها، مما يكسبها قدرة على المراوحة بين المواقف المختلفة حسب الواقع والمصلحة التنظيمية البحتة، لكن يظل هناك عامل هام وعنصر رئيسي تعتمد جماعة الإخوان عليه وتستمد منه قوتها وقدرتها على التأثير، هذا العنصر يتمثل في الفرد.


لكن جماعة الإخوان تعتمد على فرد له سمات معينة وطبيعة خاصة، حيث إن قوة تنظيم الإخوان تأتي من خلال احتوائه على عدد كبير من الأفراد، تقوم جماعة الإخوان بإعدادهم وتربيتهم بشكل معين، وترسخ بداخلهم قناعات مشتركة من خلال العديد من الوسائل والمناهج، بحيث مع الوقت تذوب العديد من الفروق الفردية بينهم، وتنشأ شخصية جماعية لها سمات واحدة، ويلتئم هذا العدد الكبير من الأفراد في جسدٍ ضخم له عقل محدود، تتحكم في حركته وتوجيهه مجموعة صغيرة من القيادات لها عليهم حق السمع والطاعة والثقة المطلقة.

المعيار الأهم في منح الجماعة عضويتها السمع والطاعة

في البداية تقوم جماعة الإخوان بعمل الصياد الماهر، تلقي شباكها على نطاق واسع، فتتجمع فيها الأسماك الصغيرة في غفلة منها، ثم توليها جماعة الإخوان الرعاية، وتوفر لها المناخ الملائم، وتقدم الطعام المناسب حتى تكبر الأسماك وتستطيع أن تصطاد هي بعد ذلك، وكانت شباك الجماعة هذه هي أنشطتها العامة المختلفة التي كانت تمارسها في المجتمع وتستهدف بها عموم الناس، وكانت تتنوع إلى دعوية وسياسية وخيرية وترفيهية ..الخ، وتهدف هذه الأنشطة إلى نشر بعض القيم والأفكار، كما تهدف إلى استقطاب أفراد جدد من خلالها لضمهم إليها فيما بعد.

وجماعة الإخوان دائمًا هي التي تختار من يصلح ليكون عضوًا بها مستقبلًا، فلم يكن خيار دخول جماعة الإخوان مسئولية الأفراد، حيث تتبع أسلوبًا متدرجًا لضم الفرد يبدأ بدعوته للمشاركة في بعض الأنشطة العادية، ثم بعد فترة من الاندماج يمر خلالها بعدة مراحل تربوية تمهيدية وبعد تحقق شروط معينة، يتم طلب البيعة منه ليصبح بعدها عضوًا رسميًا بالجماعة.

لكن جماعة الإخوان لها معايير وشروط فيمن تختاره ليكون عضوًا بها، فهي تركز على شرائح سِنّية معينة تعطي لها الأولوية في ضمها إليها، فتحرص على الشريحة ما بين سن العاشرة وسن الحادية والعشرين تقريبًا، وذلك لأن قدرة جماعة الإخوان على التأثير في الفرد تكون أكبر في هذه المرحلة من حيث غرس القناعات وتشكيل العقل والوجدان..

النقد المتواصل للإخوان والإسلاميين في صالح المجتمع ‏

كما تحرص جماعة الإخوان على اختيار الأفراد المميزين اجتماعيًّا ودراسيًّا، لكن تظل أهم صفة تشترط الجماعة وجودها في الفرد، هي مدى استعداده لأن يصبح طيّعًا لينًا يتمتع بسهولة الانقياد، ويتحلى بالبعد عن الجدال والسؤال، وأن يكون لديه الاستعداد للعمل والتنفيذ دون البحث في الدوافع والأسباب؛ حيث إن أسوأ صفة في الفرد حسب رؤية جماعة الإخوان هي التفكير وكثرة السؤال، فهي ترى ذلك عائقًا أمام قدرتها على تحريكه وتوجيهه، وهذه الصفة تظل محل عناية الجماعة طوال الوقت فيما بعد، فتعمل على ترسيخها في الأفراد باستخدام العديد من الوسائل، كما أنها تظل المعيار الذي تحكم به على الفرد وتقيس به درجة صلاحيته وإخلاصه!  

ورغم أن جماعة الإخوان قامت على أفكار كبرى، ونظرية واضحة الأهداف حددها حسن البنا، ومن المُفترض أن يكون الخطاب الذي يوجه لمن يُتوسَم فيه أن يكون عضوًا بجماعة الإخوان خطابًا يستهدف مخاطبة العقل لا العاطفة، وأن يكون الانضمام للجماعة قائمًا على الاقتناع بأفكارها وأهدافها ومشروعها؛ إلا أن الواقع يكشف أن مسألة الأفكار تأتي في ذيل اهتمامات جماعة الإخوان..

وأن الجهد المبذول في جذب أعضاء جدد يركز على مخاطبة القلوب أكثر من العقول، وتحريك العاطفة الدينية لدى الشباب وحثهم على الرغبة في العمل للإسلام والدعوة له واستعادة أمجاده وتطبيق شريعته، عبر خطاب مسرف في العموميات مستخدمًا للشعارات، لا يهتم بالتفاصيل ولا ببرامج العمل ولا مناقشة إشكاليات الواقع وتحديد الحلول لها، فالغالبية العظمى ممن ينضمون لجماعة الإخوان لا يدخلونها بناءً على اقتناع بمبادئها وأفكارها وأهدافها، اقتناعًا مبنيًا على فهم وبحث وتقليب للآراء ووجهات النظر، وإنما بناءً على حب للدين، ورغبة في الثواب، وفي خدمة الدين والعمل له مع من يرفعون شعار "الإسلام هو الحل"!

التنظيمات الإسلامية تعادي الفكر وأهله ومصيرها التفكك ذاتيا

وهذه الحالة من العمومية وعدم الخوض في التفاصيل التي لا يملكونها رأيناها عند وصول جماعة الإخوان للحكم، حين تأكدنا من عدم وجود مشروع واضح المعالم لإدارة الدولة من خلال فهم واعٍ للشريعة يتناسب مع الواقع، ولم نجد إلا خطابًا يثير المشاعر الدينية ويُلهب الحماسة هدفه فقط دوام التفاف الناس حول جماعة الإخوان. 

وبعد أن تختار جماعة الإخوان الأفراد الصالحين لعضويتها، تبدأ في توفير المناخ الذي تقوم بتربيتهم فيه، ويتمثل في مجتمع مغلق يعيش فيه الأفراد منعزلين شعوريًا عن المجتمع الأكبر، يتميز بوجود العديد من الروابط والعلاقات الاجتماعية الخاصة به، فمن جانب تعمل جماعة الإخوان على تأكيد أواصر العلاقة بين الأفراد ومنحها عمقًا دينيًّا، والتأكيد على وصفها بالأخوّة في الدين وأنها أقوى من أخوّة النسب، ما يجعل الفرد زاهدًا في أي صداقات عميقة خارج دائرة تنظيم الإخوان.

كما تعمل على إنشاء الروابط الأسرية عن طريق حث الأفراد على الزواج من داخل التنظيم، وتعمل أيضًا على إنشاء روابط مادية قدر الإمكان، عن طريق الاستفادة بأفراد الجماعة في العمل داخل مؤسسات اقتصادية يملكها أفراد من الجماعة، ولا تقتصر العزلة التي يعيشها أفراد الجماعة على صورة العلاقات الاجتماعية فقط، بل إنها تكون أيضًا عزلة فكرية وثقافية، تتمثل في رفض أي منتج فكري آخر خاصة ما ينتجه مفكرون غير إسلاميون أو غربيون، وبذلك يجد الفرد من جماعة الإخوان نفسه معزولًا مع مرور الوقت داخل ذلك المجتمع المغلق، لا يخرج منه إلا لضرورة حياتية أو دعوية، ما يهيئ المناخ لترسيخ القناعات وتعميق الأفكار وتشكيل العقل والروح.

وفي رحلة الفرد داخل جماعة الإخوان فإنه يمر بالعديد من المراحل التربوية المختلفة، لكل منها أهدافها وقناعاتها التي يتم غرسها، ويتم ذلك عبر العديد من الوسائل والمناهج التربوية، سوف نتناولها في المقالات القادمة لنتعرف على كيفية صناعة جماعة الإخوان لأفرادها، ومن خلالها ربما نستطيع تقديم تفسير للعديد من ممارسات الجماعة ومواقفها.
الجريدة الرسمية