رئيس التحرير
عصام كامل

الهجّانة وأخواتها

تمشي حذِرا تقدم خطوة وتؤخر أخرى.. تتحسس حافظة نقودك قد يخرج فجأة سائل يداهمك بسؤال قائلاً لك:«من أنت يا أستاذ؟ وماذا تريد».. وعنئذ يتملكك الخوف أو الرهبة؛ فسحنة السائل تثير ملف أسئلة جنائية بشأنه في ذهنك.. وحينها تكتشف أنك قد غامرت بدخولك ذلك المكان، تلك المغامرة كانت أحوج إلى «طرازان» منها إلى إنسان عادي، أو هكذا تبدو طبيعة الحياة ويكون موقف من يحاول اكتشافها في تلك العشوائيات المتناثرة بأطراف القاهرة الكبرى بمحافظاتها الثلاث «القاهرة، والجيزة، والقليوبية».


هكذا أعاد مشهد اهتمام الدولة بتطوير «عزبة الهجانة» إلى ذاكرتي ملفات مماثلة؛ حينما عشت بداياتي الصحفية في عام 2005؛ متنقلا بين حي وآخر في تغطيات مشكلاتها تارة وساكنا في دهاليزها أخرى في فترة يصطلح الزملاء على تسميتها بأيام «الكحرتة»، ذلك المصطلح الذي لا يعرفه المعجم الوسيط والقاموس المحيط ومعجم المعاني وكل قواميس اللغة؛ لأنه «اختراع» مصري خالص يترجم هو ذاته المعاناة والألم قبل أن تترجمه قواميس..

هناك في تلك الأحياء لا مكان لخصوصية ولا حديث عن آدمية، قد تقف الجارة في شرفة أو نافذة بهدف «نشر الملابس»، ومعها أسرار بيتها بمجرد فتح النافذة، ويهم الرجل بحديث «حلال» إلى زوجته فيسمع جاره سره.. ولا مشكلة في الحصول على أي شيء؛ فالقانون السائد الخاص بتلك العشوائيات هو «تسليك الأمور»؛ وبمنطق «التسليك» يمكن لمن يملك المال أن يبني برجا مخالفا ويضمن له دخول المرافق، وبذات المنطق يمكنه عمل أي مشروع «بير سلم»، ويكتب على منتجه ما أراد من معلومات دعائية مزورة.

انتخبوني ولن تروني

طالما تألمت كثيرا بعد أن عدت إلى تلك الأحياء في فترة لاحقة من حياتي الصحفية مكلفا بتغطية بعض أزماتها، وأذكر أنني تابعت حالة أسرة يزيد عددها على خمسة أطفال؛ تسكن غرفة لم تتجاوز مساحتها سبعة أمتار مربعة؛ وسألت رب الأسرة عن كيفية نوم أطفاله، وحياتهم.. وكانت الإجابات كارثية؛ ولتلك الأسباب المشار إليها والمشاهد المؤلمة أنظر إلى توجه الدولة الجريء نحو تطوير العشوائيات بآليات عملية وخطط محددة التوقيت، لكن تلك الخطوة تحتاج أيضا إلى مسؤولين جُرَءاءُ في التفاعل مع تعليمات القيادة السياسية وتنفيذها بحكمة وحرفية وسرعة، مع القدرة على احتواء الآثار الجانبية لتلك الجراحة التي بات الجسد في أشد الحاجة إلى إجراءها، بعد توغل «سرطان العشوائيات».

تحتاج الدولة الآن إلى استراتيجية إعلامية ملائمة لذلك الملف، بعيدا عن التهويل والتهوين، بما يضمن وجود آلية «تحصين إعلامي داخلي»، ضد أبواق التحريض الخارجي الممنهج، ويحقق مصداقية التناول، بحيث يكون إعلامنا طرفا أصيلا في ملف «تطوير العشوائيات» وحلقة وصل بين المواطن وصانع القرار.. والله من وراء القصد.
الجريدة الرسمية