جنازة أم كلثوم
"الزمان حزين، والمكان حزين"..
عبارة أخَّاذة مُعبرة استهل بها الإذاعى الكبير جلال معوض فيلمًا تسجيليًا يرصد
جنازة أم كلثوم، منذ خروج جثمانها من مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، وحتى مثواه
الأخير.
عندما كانت مصر يومًا جميلة، كانت كل التفاصيل تنطق بهاءً وجمالا. وعندما كانت أرض المحروسة ولادة، كانت تنجب أساطير فى العلوم والفنون والآداب والرياضة وكل مجال.
لم يكن رحيل أم كلثوم، قبل 45 عامًا بالتمام والكمال، أمرا عابرا، بل كان حدثًا جللا واستثنائيًا، وانعكس ذلك فى حالة الحشود الرهيبة التى رافقت الجنازة، حيث قدرتها الصحف السيارة يومئذ بـ 4 ملايين شخص.
كانت الجنازة تاريخية، مثلما كانت صاحبتها معجزة تاريخية، تستعصى على التكرار، بل إنها فاقت –فى نظر المراقبين والمؤرخين- جنازة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
كانت أم كلثوم – فى رأى الكثيرين- أسطورة فنية وإنسانية متكاملة، كما كان عبد الناصر-برأى من استفادوا منه- أسطورة سياسية.
عفريت الحب!
رغم أن أم كلثوم، عاشت 77 عامًا، إلا أن وفاتها أبكت الملايين، ليس فى مصر وحدها، بل فى المنطقة العربية بأسرها، وبدا ذلك من وفود المعزين الذين تهافتوا على القاهرة من كل صوب وحدب؛ لتقديم واجب العزاء، فى فنانة عاشت فى وجدان المصريين والعرب؛ بما وهبها الله من موهبة إعجازية، لم تقتصر على الغناء فحسب، بل امتدت إلى أدوار وطنية وعروبية مشهودة، لا تخفى على أحد، ولا ينكرها سوى جاحد.
يبدأ الفيلم التسجيلى "وداع كوكب الشرق أم كلثوم" بتتر مكتوب عليه: "إهداء إلى فنانة الشعب الأولى، التى علمتنا الحب، وعلمتنا أن نغنى للحياة، صوتها ملأ الأرض وسيملأ السماء، نهدى هذا الفيلم ذكرى عطرة لحبيبة الملايين".
يستكمل جلال معوض صاحب الصوت الفخيم والأداء الاستثنائى والمتكامل: "المكان.. مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، الزمان.. الأربعاء الخامس من فبراير 1975، السيارة تصل إلى مسجد عمر مكرم، كان الصباح لا يزال مبكرًا حين أخدت الجموع مكانها إلى ميدان التحرير، حيث يغطى الحزن الناس والزمان والمكان.. ويستمر التدفق على الميدان من كل صوب وحدب، ويضيق المكان على سعته، حتى تزدحم كل غرفة وشرفة تطل عليه، ويُقفل كل شارع أو طريق يؤدى إليه، من كل أنحاء القاهرة جاءوا، بل كل من أرض العرب، الكل يواسى والكل فى حاجة للمواساة، الكل يُعزى والكل يتقبل العزاء فى واحدة من معالم مصر كالنيل والنخيل والهرم".
تتقاطر وفود المعزين من كبار رجال الدولة ويصل مندوب الرئيس ليشارك فى وداع ابنة مصر، ونائب الرئيس للشئون الدينية الدكتورعبد العزيز كامل يؤم صلاة الجنازة على الجسد الطاهر فى مسجد عمر مكرم، بحسب وصف "معوض"، الذى يُكمل فى أسى ولوعة وتأثر لافت وتلقائى وليس مُصطنعًا: "سلامٌ عليك أيتها المؤمنة".
شيزوفرينيا فنية
يخرج الموكب الجنائزى من مسجد عمر مكرم، وسط حشود ضاقت بها الأرض بما رحُبت، ولم تتسع لها النوافذ والشرفات، وفى حراسة أمنية تجاوزت عشرة آلاف ضابط وجندى من أفراد الشرطة، وعشرات من الصحفيين والمراسلين والمصورين المصريين والعرب والأجانب الذين حضروا؛ لينقلوا إلى العالم كله وقائع اليوم المشهود.
فرق موسيقى الشرطة تعزف لحن الوداع الأخير، وتطل أم كلثوم إطلالتها الأخيرة، فتنطلق المشاعر الحثيثة بالأسى واللوعة وتنهمر الدموع، وكأن الجميع لا يصدق أن أيقونة الغناء والطرب، التى أطربتهم على مدار نصف قرن من الزمان، سوف تغادرهم بلا عودة.
يُكمل "معوض"، الذى رافق أم كلثوم فى حفلاتها المشهودة بدار الأوبرا المصرية، سيمفونيته المُفعمة بكل مفردات الكمال: "لقد عرف الناس فيما عرفوا عنها إيمانها القوى بالله، إيمانها العميق بعروبيتها"، متابعًا: " كان صوتها أداة تقرب المشاعر وتوحد الصفوف، إنها فنانة الشعب التى أعطت، وظلت تعطى وبذلت بسخاء".
ينتقل "معوض"، الذى ينتمى إلى جيل استثنائى بالإعلام المصري قبل أن تفسده المجاملات ويدمره أبناء العاملين، من وصف مناقب كوكب الشرق إلى وصف الموكب الجنائزى مجددًا: "يندفع الملايين، يحولون الميدان كله إلى مشهد من مشاهد التاريخ، صورة من أعمق صور الوفاء، لحن الخلود، إنه الشعب يرد الجميل لابنة مصر الوفية وصوتها الصادق الأمين".
الغابة!
بدا النعش فور خروجه من مسجد عمر مكرم فوق أعناق الآلاف كقاربٍ فضىٍّ فى محيط من البشر.
الموقف مهيب بحق، يستعصى على الوصف، تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
الشرطة على كثرة عدد أفرادها فشلت فى ضبط إيقاع الموكب كما أرادت وخططت له فى المساء، فسرعان ما ذاب الجميع فى الموكب الحزين، وأمام الحزن والحب.. اختلط الجميع واندفع الجميع، آلاف جديدة تلقى بنفسها فى بحر الحب والوفاء.
يمضى الموكب حتى يصل الى المسجد الحسينى، وفى أرجائه الطاهرة.. ارتفعت صلوات الآلاف على روحها الطاهرة، قبل أن تُحمل الى حيث مصير كل إنسان.
وعند هذه اللحظة الفارقة.. يختتم معوض الفيلم التسجيلى الذى استغرق 20 دقيقة إلا ثوانيَ قليلة: "هنا يطوى التاريخ صفحة حياة، ويضم الثرى جسدًا فى حناياه، وكالنيل دافقًا كل يوم فى رُبى مصر، وكالهرم شامخًا إلى الأبد فوق أرضها، ستبقى أم كلثوم خالدة فى ضمير شعب ووجدان أمة، خالدة فى حِمى الفردوس، فى رحاب الجنة".
وبعد مرور 45 عامًا على الرحيل، وفى ذكرى ميلادها الـ 122، التى حلت فى 31 ديسمبر الماضى.. لا تزال أم كلثوم أيقونة، تزداد بمرور الأيام وتقادم السنين، رونقًا وحُسنًا وبهاءً..
عندما كانت مصر يومًا جميلة، كانت كل التفاصيل تنطق بهاءً وجمالا. وعندما كانت أرض المحروسة ولادة، كانت تنجب أساطير فى العلوم والفنون والآداب والرياضة وكل مجال.
لم يكن رحيل أم كلثوم، قبل 45 عامًا بالتمام والكمال، أمرا عابرا، بل كان حدثًا جللا واستثنائيًا، وانعكس ذلك فى حالة الحشود الرهيبة التى رافقت الجنازة، حيث قدرتها الصحف السيارة يومئذ بـ 4 ملايين شخص.
كانت الجنازة تاريخية، مثلما كانت صاحبتها معجزة تاريخية، تستعصى على التكرار، بل إنها فاقت –فى نظر المراقبين والمؤرخين- جنازة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
كانت أم كلثوم – فى رأى الكثيرين- أسطورة فنية وإنسانية متكاملة، كما كان عبد الناصر-برأى من استفادوا منه- أسطورة سياسية.
عفريت الحب!
رغم أن أم كلثوم، عاشت 77 عامًا، إلا أن وفاتها أبكت الملايين، ليس فى مصر وحدها، بل فى المنطقة العربية بأسرها، وبدا ذلك من وفود المعزين الذين تهافتوا على القاهرة من كل صوب وحدب؛ لتقديم واجب العزاء، فى فنانة عاشت فى وجدان المصريين والعرب؛ بما وهبها الله من موهبة إعجازية، لم تقتصر على الغناء فحسب، بل امتدت إلى أدوار وطنية وعروبية مشهودة، لا تخفى على أحد، ولا ينكرها سوى جاحد.
يبدأ الفيلم التسجيلى "وداع كوكب الشرق أم كلثوم" بتتر مكتوب عليه: "إهداء إلى فنانة الشعب الأولى، التى علمتنا الحب، وعلمتنا أن نغنى للحياة، صوتها ملأ الأرض وسيملأ السماء، نهدى هذا الفيلم ذكرى عطرة لحبيبة الملايين".
يستكمل جلال معوض صاحب الصوت الفخيم والأداء الاستثنائى والمتكامل: "المكان.. مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، الزمان.. الأربعاء الخامس من فبراير 1975، السيارة تصل إلى مسجد عمر مكرم، كان الصباح لا يزال مبكرًا حين أخدت الجموع مكانها إلى ميدان التحرير، حيث يغطى الحزن الناس والزمان والمكان.. ويستمر التدفق على الميدان من كل صوب وحدب، ويضيق المكان على سعته، حتى تزدحم كل غرفة وشرفة تطل عليه، ويُقفل كل شارع أو طريق يؤدى إليه، من كل أنحاء القاهرة جاءوا، بل كل من أرض العرب، الكل يواسى والكل فى حاجة للمواساة، الكل يُعزى والكل يتقبل العزاء فى واحدة من معالم مصر كالنيل والنخيل والهرم".
تتقاطر وفود المعزين من كبار رجال الدولة ويصل مندوب الرئيس ليشارك فى وداع ابنة مصر، ونائب الرئيس للشئون الدينية الدكتورعبد العزيز كامل يؤم صلاة الجنازة على الجسد الطاهر فى مسجد عمر مكرم، بحسب وصف "معوض"، الذى يُكمل فى أسى ولوعة وتأثر لافت وتلقائى وليس مُصطنعًا: "سلامٌ عليك أيتها المؤمنة".
شيزوفرينيا فنية
يخرج الموكب الجنائزى من مسجد عمر مكرم، وسط حشود ضاقت بها الأرض بما رحُبت، ولم تتسع لها النوافذ والشرفات، وفى حراسة أمنية تجاوزت عشرة آلاف ضابط وجندى من أفراد الشرطة، وعشرات من الصحفيين والمراسلين والمصورين المصريين والعرب والأجانب الذين حضروا؛ لينقلوا إلى العالم كله وقائع اليوم المشهود.
فرق موسيقى الشرطة تعزف لحن الوداع الأخير، وتطل أم كلثوم إطلالتها الأخيرة، فتنطلق المشاعر الحثيثة بالأسى واللوعة وتنهمر الدموع، وكأن الجميع لا يصدق أن أيقونة الغناء والطرب، التى أطربتهم على مدار نصف قرن من الزمان، سوف تغادرهم بلا عودة.
يُكمل "معوض"، الذى رافق أم كلثوم فى حفلاتها المشهودة بدار الأوبرا المصرية، سيمفونيته المُفعمة بكل مفردات الكمال: "لقد عرف الناس فيما عرفوا عنها إيمانها القوى بالله، إيمانها العميق بعروبيتها"، متابعًا: " كان صوتها أداة تقرب المشاعر وتوحد الصفوف، إنها فنانة الشعب التى أعطت، وظلت تعطى وبذلت بسخاء".
ينتقل "معوض"، الذى ينتمى إلى جيل استثنائى بالإعلام المصري قبل أن تفسده المجاملات ويدمره أبناء العاملين، من وصف مناقب كوكب الشرق إلى وصف الموكب الجنائزى مجددًا: "يندفع الملايين، يحولون الميدان كله إلى مشهد من مشاهد التاريخ، صورة من أعمق صور الوفاء، لحن الخلود، إنه الشعب يرد الجميل لابنة مصر الوفية وصوتها الصادق الأمين".
الغابة!
بدا النعش فور خروجه من مسجد عمر مكرم فوق أعناق الآلاف كقاربٍ فضىٍّ فى محيط من البشر.
الموقف مهيب بحق، يستعصى على الوصف، تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
الشرطة على كثرة عدد أفرادها فشلت فى ضبط إيقاع الموكب كما أرادت وخططت له فى المساء، فسرعان ما ذاب الجميع فى الموكب الحزين، وأمام الحزن والحب.. اختلط الجميع واندفع الجميع، آلاف جديدة تلقى بنفسها فى بحر الحب والوفاء.
يمضى الموكب حتى يصل الى المسجد الحسينى، وفى أرجائه الطاهرة.. ارتفعت صلوات الآلاف على روحها الطاهرة، قبل أن تُحمل الى حيث مصير كل إنسان.
وعند هذه اللحظة الفارقة.. يختتم معوض الفيلم التسجيلى الذى استغرق 20 دقيقة إلا ثوانيَ قليلة: "هنا يطوى التاريخ صفحة حياة، ويضم الثرى جسدًا فى حناياه، وكالنيل دافقًا كل يوم فى رُبى مصر، وكالهرم شامخًا إلى الأبد فوق أرضها، ستبقى أم كلثوم خالدة فى ضمير شعب ووجدان أمة، خالدة فى حِمى الفردوس، فى رحاب الجنة".
وبعد مرور 45 عامًا على الرحيل، وفى ذكرى ميلادها الـ 122، التى حلت فى 31 ديسمبر الماضى.. لا تزال أم كلثوم أيقونة، تزداد بمرور الأيام وتقادم السنين، رونقًا وحُسنًا وبهاءً..