صندوق الخالة حليمة
اعتادت أمي أن ترسلني إلى منزل الخالة حليمة كي أعطيها طبقا به كعك غارق في السكر البودرة أو لأجلب شيئا من عندها كالهون النحاس ومشابك الغسيل، وكثيرًا ما غبت عندها؛ إذ كانت تمنحني الحلوى، التي لا أعرف لٍمَ تحتفظ بكميات كبيرة منها وهي لا ولد لها ولا بنت؟!
عرفت حليمة بأنها
الأم التي لم تنجب، فكل عيال الحارة أطفالها، تمنحهم الحلوى والبسكويت، وتكحل أعين
البنات وتسرح شعورهن، ثم تزينها بالتوك الملونة.
رسائل صباحية لامرأة تعشق السهر
وفي إحدى المرات، تركتني الخالة أشاهد التليفزيون الصغير في صالة منزلها، ودخلت غرفتها ثم أغلقت على نفسها الباب بإحكام.. وتلك لم تكن أول مرة، فهذه عادتها، وهذا ما دفعني لاختلاس النظر، كي أكشف سر ما تفعل.
نظرت من فتحة الباب،
إذ إنها نسيت هذه المرة أن تضع المفتاح في ذلك الثقب الصغير لتكبح تطفلي، فوجدتها تجلس
على سريرها، وتفك شعرها البني الطويل لتحرره من قيد الإيشارب الأزرق، قبل أن تدس يدها
داخل صندوق صغير، وتخرج أوراقا قديمة، تشمها وكأنها تستنشق عبيرا، ثم تضمها إلى صدرها،
وبعدها تظل تنظر للورقة وعلى وجهها ابتسامة لا تشبه ابتسامة أخرى رأيتها في حياتي..
خشيت أن أسأل أمي
عن سر الخالة حليمة، فهي إن عرفت أنني تلصصت عليها حتما ستضربني ولن ترسلني إليها مجددا،
فأخسر أنا الحلوى ومشاهدة التليفزيون، فيما تبقى خسارتي الأكبر في حرماني من رؤية تلك
الابتسامة على وجهها الجميل رغم شحوبه مرة أخرى..
مرت السنوات، وماتت
الخالة حليمة، وبعد دفنها تجمع الناس لينظروا في أمر توزيع تركتها، إذ لم يكن لها أهل
ولا وريث.. اقترح أحد أعيان
البلد التبرع بمنقولات البيت للفقراء صدقة على روح المرحومة، على أن تحول دارها إلى
ملحق للمدرسة الابتدائية التي ضاقت بتلاميذها..
فوضى الفراغ
ومن بين منقولاتها
تمكنت أمي من الحصول على الصندوق الصغير، الذي يحوي تلك الأوراق التي كانت تطالعها
حليمة.. كان صندوقا من الخشب
القديم بغطاء محكم، وضعته أمي في سحارة ملابسها، وأغلقتها بقفل نحاسي كبير، ما جعل
فضولي يتزايد لكشف ذلك السر، الذي يبدو أن أمي تعرفه جيدا، وإلا لما حرصت على أخذ الصندوق
وإخفائه..
لم تتكلم أمي يوما
عن الصندوق أو ما بداخله، رغم محاولاتي المتعددة لاستنطاقها بشكل غير مباشر، لكنها
دائما كانت تعرف ما يعتمل في صدري ويدور في عقلي، إلى أن جاء اليوم الذي كانت أمي فيه
تحتضر، إذ أشارت للحاضرين بأن يخرجوا وأن أبقى أنا وحدي..
خرجوا جميعا، وأشارت
لي أمي كي أقترب منها، فدنوت وهمست في أذني: «أقسم أنك لن تفتح الصندوق.. خذه وأخفه
إلى أن تورثه لأكثر أبنائك صدقا وأمانة.. ووصه بأن يفعل ذلك مع أحد أحفادك». ماتت أمي وأخذت أنا
الصندوق، وكلما قرصني الفضول، أخرجته ووضعته أمامي ثم أغمض عيني وأتخيل ما تحويه تلك
الأوراق القديمة..
سنوات وسنوات لم أخن فيها العهد.. فقط مرة واحدة فتحت الصندوق وأنا مغمض العينين وتحسست إحدى الورقات داخله، فارتعش جسدي بقوة، لأسحب يدي سريعا وأعيد غلق الصندوق.