هل يقضي قضاء مجلس الدولة ضد نفسه؟ (1)
من الطبيعي أن يقضي القاضي لخصم ضد خصم آخر، وأن ينتصر القاضي للحق حين يزن الأدلة ويرجح بينها، حتى ولو كان صاحب الحق يختصم الدولة، ولكن من غير المألوف أن يختصم مواطنًا مجلس الدولة طعنًا على تخطيه في التعيين، وذلك أمام قضاء مجلس الدولة.
أما العجيب، فهو أن يقضي قضاء مجلس الدولة ضد نفسه، وينتصر للحق دون مواربة، فلا تأخذه العزة بالإثم ولا يختلق الأعذار أو يُعْرِض عن الحق، بل ويُفنِد أسباب ذلك الحكم في سطورٍ يجب أن ينسخها التاريخ قبل قسم النسخ بمجلس الدولة.
ونظرًا لأهمية الوظائف القضائية وما يجب أن يتحلى بها شاغلوها من الأمانة والنزاهة والبعد عن الريب والظنون والحرص على ألا يشوب مسلكهم أي شائبة، فقد استلزم المشرع لتحقق صلاحية المرشح لشغل الوظائف القضائية توافر شرط يتعلق بالمرشح ذاته، وهو ألا يكون قد حكم عليه من المحاكم أو مجالس التأديب لأمر مخل بالشرف وتوافر شرط حسن السمعة والسيرة الحميدة وصولاً إلى إختيار أفضل العناصر حفاظًا على مرفق العدالة وحماية لحقوق المواطنين.
ولم يحدد المشرع أسباب فقدان حسن السمعة والسيرة الحميدة على سبيل الحصر وأطلق المجال في ذلك لجهة الإدارة تحت رقابة القضاء الإداري والذي استقرت أحكامه على أن السيرة الحميدة والسمعة الطيبة هي مجموعة من الصفات والخصال التي يتحلى بها الشخص فتكسبه الثقة بين الناس وتجنبه قالة السوء وما يمس الخلق، ومن ثم فهي تلتمس في أخلاق الشخص نفسه، إذ هي لصيقة بشخصه ومتعلقة بسيرته وسلوكه ومن مكونات شخصيته.
ولا يؤاخذ على صلته بذويه إلا فيما ينعكس منها على سلوكه، وأثرًا لذلك فإنه يجب أن تتركز التحريات الأمنية على نطاق الأسرة الصغيرة للمرشح (الوالد والوالدة والأخوة والأخوات) ولا يمتد ذلك إلى أفراد عائلته الكبيرة كالأعمام والأخوال وأولادهم وكذلك الجدين، إلا إذا كان من شأن الجرائم أو السلوك المنسوب إليهم يسئ إلى سمعتهم جميعًا فحينئذ تتبدل الأحوال.
طارق شوقي يرتدي ثياب الفيلسوف المفكر
وإذا عولت الجهة القضائية على التحريات التي أجريت خارج نطاق أسرة المرشح بمفهومها الضيق واتخذتها ذريعة لإستبعاد المرشح من التعيين بزعم فقده شرط حسن السمعة فإن قرارها في هذا الشأن يكون قد استخلص استخلاصًا غير سائغ واستمد من أصول لا تنتجه ماديًا وقانونيًا ويقع مخالفًا لصحيح القانون.
جاء ذلك عبر أسباب حكم مهم أصدرته الدائرة الثانية بمحكمة القضاء الإداري، وقالت: إن دائرة توحيد المباديء بالمحكمة الإدارية العليا قضت بأن اجتياز مقابلة اللجنة المُشكلة لمقابلة المتقدمين للتعيين بالوظائف القضائية يكون شرطًا لازمًا يضاف لشروط التعيين المقررة قانونًا، والتي تنحصر في التمتع بجنسية جمهورية مصر العربية والحصول على إجازة الحقوق وعدم صدور أحكام من المحاكم أو مجالس التأديب في أمر مخل بالشرف ولو تم رد اعتباره وحسن السمعة وطيب السيرة.
ويأتي ذلك لأن ممارسة السلطة التقديرية في مجال التعيين في الوظائف القضائية سيظل على وجه الدوام واجبًا يبتغي الصالح العام باختيار أكفأ العناصر وأنسبها، وهو أمر سيبقى محاطًا بإطار المشروعية التي تتحقق باستهداف المصلحة العامة دون سواها، وذلك بالتمسك بضرورة توافر ضمانات شغل الوظيفة والقدرة على مباشرة مهامها في إرساء العدالة دون ميل أو هوى.
وِحدة رصد النائب العام «تُصَفِد» شَياطين المُجتَمَع
وفضلاً عن ذلك فإن تلك السلطة التقديرية هي وحدها التي تقيم الميزان بين حق كل من توافرت فيه الشروط العامة المنصوص عليها في القانون لشغل الوظائف القضائية وبين فاعلية مرفق القضاء وحسن تسييره فلا يتقلد وظائفه إلا من توافرت له الشروط العامة وحاز بالإضافة إليها الصفات والقدرات الخاصة التي تؤهله لممارسة العمل القضائي على الوجه الأكمل.
ومن ثم فإنه إذا أتيحت للمتقدم فرصة مقابلة اللجنة المنوط بها استخلاص مدى أهليته في تولي الوظيفة القضائية والمُشكلة من قمم الجهة القضائية التي تقدم لشغل وظائفها، فإنه لا يكون أمامه إن أراد الطعن في القرار الصادر بتخطيه في التعيين سوى التمسك بعيب الانحراف عن المصلحة العامة وعندئذ يقع على عاتقه عبء إثبات هذا العيب القصدي أو الشخصي.. وللحديث بقية