د. أحمد عبد الرحمن يكتب: سيد قطب بين الأفكار والاستثمار!
في مثل هذه الأيام من عام ١٩٦٦، التف حبل المشنقة فجرا حول نحر سيد قطب فأزهق روحه، وخلد مؤلفاته، وكثر الكلام حول سيد في حياته وبعد مماته.. لكن الشيء الذى لم يختلف عليه فى الرجل أنه يعتبر أوسع رافد استمدت منه الجماعات الدينية، رغم كثرتها وتعارضها، آراءها وأفرادها.
لقد وظفته جماعة الإخوان مسؤولا عن عملية التربية فى صفوف الجماعة، وأذنت له بترسيخ فكره الجديد والعميق بين الأفراد، وكانت كتاباته ومنشوراته توزع على أفراد الإخوان، داخل وخارج السجون بمعرفة المرشد العام، وبمساعدة زينب الغزالى وعبد الفتاح إسماعيل، حتى وصلت كتاباته من أقاصى الشمال فى دمياط إلى جنوب البلاد فى الواحات.
وسارت فكرة سيد قطب تموج موج البحر، والإخوان يستثمرونها فى الموقفين المتناقضين فى وقت واحد، فنجد مثلا كتاب "معالم فى الطريق" يقرر تدريسه لأفراد الاخوان بمباركة الأستاذ حسن الهضيبى ومعرفته، حيث ترسل إليه ملازم الكتاب أولا بأول ليقرأها قبل توزيعها، وبالفعل يقرها الرجل لتصل إلى بقية الإخوان بعد ذلك.
وعندما استفحل فكر قطب داخل السجون، وأصبح ظاهرة بين المحبوسين من الإخوان، وهدد شبح الانقسام بالإجهاز على الجماعة انبرى الهضيبى يتصدى لهذا الفكر ويفنده بقوة فى كتابه "دعاة لا قضاة".. وإن كان المرشد لم يسم قطب صراحة، كما تصدى للفكر القطبى كذلك عمر التلمسانى وآخرون.. فتارة يجمعون للإخوان تحت فكر سيد قطب، وأخرى يربطون الأفراد بالإخوان من خلال التبرؤ والهجوم على فكر سيد قطب، وذلك بحسب حال الشخص أو المجموعة التى يريدون ضمها إليهم.. إذا كانت هذه المجموعة من الشباب المتحمس الحيوى قالوا لهم إن سيد قطب من جماعتنا وتولى مسؤلية التربية فيها، وباركه فضيلة المرشد، وأعطوهم كتاب صلاح شادى "الشهيدان.. سيد قطب وحسن البنا"، وكالوا فى قطب المديح.
أما إن كان المدعو على درجة من العلم ويتحلى بالرزانة والحكمة تراهم يقولون له إن قطب ليس منا، ولقد انحرف بالدعوة عن خطها الأصيل واعترض عليه الإخوان وناقشوه فى أفكاره التكفيرية، ثم يدفعون إليه بكتاب "دعاة لا قضاة" الذى كتبه المرشد داخل السجن للرد على أفكار التكفير التى أطلقها قطب فى هذه الفترة، وبالتالي يجتمع على الإخوان من يحب سيد لأنه منهم، وكذلك من يخالف سيد لأنهم ردوا عليه وبينوا فساد أفكاره، وبهذه الازدواجية يجتمع فى صفوف الإخوان المئات كل يوم.. إما لحب سيد قطب أو لمخالفة سيد قطب، فكان قطب سببا لتجميع الإخوان فى الحالتين.
هذا على مستوى الإخوان المسلمين.. أما إن ذهبنا إلى الشيعة الاثنى عشرية نجد كتب قطب تدرس لشباب الحوزات فى طهران والنجف وقم وكربلاء، ويصوغ الخومينى نظريته وفقا لفكر سيد قطب وحسن البنا، بل نجد على خامنئي المرشد الثانى لثورة الخومينى، يحصل على رسالة الدكتوراه فى ظلال سيد قطب، وعلى الخطى يسير محمد تقى الدين المدريسى فى دروسه بالنجف التى جمعها تحت عنوان "البعث الإسلامى".
عند الانتقال إلى صالح سرية والفنية العسكرية نجدهم ترجموا أفكار قطب خطوة بخطوة، وسار سرية فى "رسالة الإيمان" التى كتبها على نفس الأفكار، غير أن القدر أمهله ليحول الفكرة إلى واقع تجسد فى الهجوم على كلية الفنية العسكرية؛ فى محاولة لخطف الرئيس، والقيام بالانقلاب الإسلامى ضد الدولة.
وبالتالى تجمع حوله الشباب على فكر قطب، وكان يفخر بالظلال ويعتبره أعظم مصادر التفسير فى العصر الحديث.
وإذا انتقلنا إلى الجماعاة الإسلامية بمصر، وكذلك تنظيم الجهاد لا تجد فارقا كبيرا بين مايقولونه وبين مايقوله قطب، بل إن الناظر فى كتاب "تفسير سورة براءة" للدكتور عمر عبدالرحمن، يحس لأول وهلة أنه يقرأ فى ظلال القرآن؛ نفس الأفكار.. نفس المفردات.. نفس الإيقاع.. نفس المنطلقات والغايات، ويتجلى الأمر بوضوح عندما تقرأ كتاب "كلمة حق - مرافعة الدكتور عمر أمام المحكمة فى قضية مقتل السادات".. تحس وقع الكلمات على أذنيك.. إنها عبارات سيد قطب وتقسيماته ومصطلحاته.. فإذا عرفت أن من بين مقررات الدراسة لدى الجماعة الإسلامية فى مراحلها الأولى كان كتاب "معالم فى الطريق".. "هذا الدين".. "المستقبل لهذا الدين"، عرفت مدى التأثر بفكر سيد قطب فى الحقيقة، وإن قالوا بأنهم لايكفرون المجتمع ولا أجهزة الدولة فهم فى النهاية يعلنون الحرب عليها كما أعلنها سيد قطب من قبل.
ويتجلى موقفهم بوضوح من مؤسسات الدولة من رأيهم فى مجلس الشعب ووجوب تحريقه، وكذلك اعتبار أجهزة الدولة طائفة ممتنعة عن شريعة الإسلام، وإصدارهم بيانًا أثناء عملياتهم الإرهابية فى التسعينات يحمل عنوان "قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار".. هكذا قالوا، وفى الكثير من أدبياتهم يثنون على الصادقين المخلصين المجاهدين من الرجال، حسب رأيهم، ومنهم سيد قطب.
وبالتالى كل من تجمع حولهم كان نتيجة التربية الحماسية الساخنة وتبني مصطلحات ومنطلقات سيد قطب بل وتدريس كتبه ومؤلفاته.
وعلى الجانب السلفى رأينا مجموعات السلفية يكرِّهون الناس فى قطب وأفكاره فيجتمع الناس عليهم بصورة أخرى رفضا لفكر قطب الذى وصفوه تارة بأنه يشبه الله بالبشر ويجسد صفات الخالق سبحانه وتعالى، وأخرى بأنه يهاجم الصحابة خاصة عثمان ومعاوية وأبوسفيان، وثالثة بأنه يقول بالحلول أو وحدة الوجود، وخامسة بتكفيره للمجتمع والناس ووصفهم بالجاهلية، وسادسة بالقول بماسونيته، إلى غير ذلك من الأقوال التى قد تفهم من كلام قطب أو يوجد بعضها بنصه، أو يقرأ مفصولا عن سياقاته، أو تشير اليها قرائن وأمارات.
أما عن داعش فلا تحتاج كبير جهد لإثبات أوجه التشابه بينها وبين قطب، بل هى تفخر بذلك وتعلنه وتذيع من كتاباته المقطوعات والصفحات.
المهم ظل سيد قطب رافدا من روافد هذه الجماعات وأفكارها وأفرادها؛ إما بتأييد أفكاره وإما بمعارضتها حتى أطلق على كتاباته دستور الجماعات الإسلامية.
الغريب فى موضوع قطب أن أفكاره لم تنمُ وتنتشر بمعزل عن الحكومات وإنما بتشجيعها وترويجها ففى فترة سجنه حيث خرجت أشد كتاباته تطرفا "معالم فى الطريق"، وقام بإعادة كتابة الظلال على منهجه الجديد، بل إن كتابات قطب وقعت تحت يد الأجهزة يومها وقرأتها وعرفت محتواها، ولم تقم بمنعها رغبة منها فى شق صفوف الإخوان، كما لم تقف الإخوان من أفكاره موقفا حاسما نكاية فى الحكومات وتحريضا عليها.. وتصدى الأزهر لكتابات قطب وأصدر تقريرا رسميا عنها، تعرضتُ له فى بعض مؤلفاتى.
فى النهاية مات الرجل، وقد استثمره الجميع من المؤيدين له والمعارضين لأفكاره، شأنه فى ذلك شأن الكثيرين الذين قاموا ليستغلهم الآخرون!!