إطلالة كئيبة على البار
عندما تطاردك تفاصيل مهنة البحث عن المتاعب
لا هرب منها إلا إلى فيلم قديم، يستدعى الماضى الذي حييته بتفاصيل انتهت على خير،
فأصبحت نوستالجا مأمونة ومدهشة ومثيرة لحكايات كانت عواقبها أكثر دهشة وأمانا.
بعد ساعات عمل طويلة ألقى جسدى المتعب على
أريكة شبه ناعمة، وأمسك ريموت التلفاز متنقلا بين قنوات الأبيض والأسود، ثم تدركنى
أمراض المهنة، فأنتقل إلى قنوات الأخبار.. فرانس ٢٤ وخبر يقول ضربات جوية تركية على
العراق، والعراق يندد، ومصر تحذر، وبعض عواصم عربية تنشغل بما لديها من هواجس
ومخاوف داخلية تلح على صاحب القرار، فيذوب فيها غرقا وبحثا عن نجاة.
لا ضرر في الانتقال إلى سي إن إن
الأمريكية: غارات تركية على سوريا العربية، ودمشق تعلن قدرتها على الرد، وعواصم
غربية تندد بالتدخل التركي، وعرب منشغلون بما هو حسب تصورهم أهم، وهو الشأن
الداخلى المميت والمحبط والكئيب.
انتقل سريعا إلى قناة النيل الإخبارية،
وخبر يتكرر على البار: إثيوبيا تصر على موقفها من ملء سد النهضة، وترفض الالتزام
القانوني بما يمكن التوصل إليه، والقاهرة تصر على موقفها، وإشارات عالمية مبهمة
تغلف الموضوع، وخبر يتردد صداه بصوت مذيع مؤثر: فرنسا تندد بالتدخل التركى في
ليبيا، والسراج يرفض مبادرة القاهرة.
لا ضرر من العودة إلى عام ١٩٣٩م، وفيلم
العزيمة لحسين صدقى، وذلك الصراع بين أغنياء الذبح ويمثلهم الفنان عبد العزيز خليل "العتر"
الذي يقوم بدور الجزار، وبين المتعلم الناهض مؤمنا بقدراته على صعود السلم
الاجتماعى، ولكن لا عزيمة اليوم، فكل الطرق تؤدى إلى الاستسلام المزعج، ربما أجد
ضالتى في تحفة السينما العربية وفيلم الأرض، ولكن الأرض اليوم مهددة بمؤامرة
التعطيش، وقد خلا زماننا من صمود محمد أبو سويلم المسحوق على الأرض متشبثا بها حتى
الموت.
سد النهضة.. من المراوغة إلى المواجهة
إذن لا ضرر من التناوب بين محطات الأخبار
مرة أخرى للمرور على عواصم عربية تدهس تحت رحايا صراعات الثمن، ثمن الديكتاتوريات
التي خلفت وراءها أطلال أوطان وأشباه بلاد، صنعاء ويمنها لم يعد سعيدا ولا ميمونا،
فالدماء تتناثر على الطرقات نهبا وقتلا وذبحا، وبغداد لم تعد الحصن الواقى والحارس
للأمة..
وخليج يموج بصراعات لا نهاية لها، والخرطوم
تعانى نقلة بين صراع الممسكين على الماضى بكل تفاصيله، وشباب قابض على جمرة
الانتقال إلى الحرية، وبيروت منهكة بفعل المحاصصة والدرب المعتم بين شجيرات الأرز
والأمل الساكن في خيالات طعم بيروت القديمة الصلبة الصامدة.
كل أخبار "البار" توحى بأنه لا
أمل دون دفع الثمن، فكل من نعموا بالحرية دفعوا الثمن إلا نحن، وها نحن ندفعه على
أقساط بفوائد مضاعفة، بسبب غياب الإرادة، والتشرذم، والصراع اللامنطقى.
كل أخبار "البار" تدعوك إلى الاستسلام موتا منفردا، أو وحيدا بلا سعر، أصبح
الدم العربى أرخص من زجاجة كوكاكولا، وأبخس من قطعة بيتزا من عجين أمريكي مستورد.
ورعاة القطعان لا يدركون أن الثعلب يغير من
طرائق إسقاط الغنمة تلو الأخرى، دون وعي منا بأنه لاملاذ ولا مهرب من الموت
المجانى إلا بوحدة كنا نتغنى بها في أناشيد الصباح، ونتلوها في صلوات الفجر، عندما
كان الفجر الكاذب يداعب عيونا تتطلع إليه دون وعى بما ستؤول إليه الأحوال.
أكلنا يوم أكلت بغداد، وسيمضى الثعلب إلى
غايته من عاصمة إلى أخرى، يهدد فكرة الوجود العربى كله دون استثناء، لا ضير في أن
ندفع ثمن الحرية، فالمهم أن يكون للدماء ثمن يليق بسر الحياة.