لعنات "سد الكارثة"
لا أعتقد أن القدر قد وضع نظاما سياسيا مصريا فى مواجهة أمام "التاريخ" فيما يتعلق بقضية "الأمن المائي" فى البلاد، مثلما وضع النظام الحالى، فإما أن يفرط ويرضخ للإملاءات الإثيوبية، أو يجعل كل الخيارات مفتوحة، والتصرف خلال أيام معدودة، تفصل "أديس أبابا" عن ملء "سد النهضة" وكلا الموقفين سيسجلهما التاريخ.
فالمتابع لتطورات الأزمة منذ الاستغلال الإثيوبي لحالة الوهن التي كانت تمر بها مصر بعد ثورة يناير فى عام 2011 وحتى اليوم، يستطيع أن يكتشف مدى الصبر والكياسة التى تعاملت بها القيادة فى مصر، فى الوقت الذى تصر فيه "إثيوبيا" ومازالت، على استخدام أسلوب المراوغة لكسب الوقت وفرض السد "كأمر واقع" أمام مصر والعالم.
ورغم ذلك، تعاملت مصر مع الأمر بصبر وحكمة، وآثرت حل الأزمة بالطرق الدبلوماسية، وهو ما عبر عنها صراحة بيان "مجلس الأمن القومي المصري" منذ أيام، مفضلا الرضوخ أمام العالم لـ "مراوغة إثيوبية جديدة" والجلوس لطاولة المفاوضات "من جديد" على الرغم من علمه المسبق بأن الدعوة الإثيوبية لتلك الاجتماعات، جاءت مواكبة لتصريحات أطلقها رئيس الوزراء الإثيوبي "أبي أحمد" فى ذات اليوم، أكد خلالها نصا أنه "لا رجعة في قرار ملء السد فى يوليو القادم".
اقرأ أيضا: إثيوبيا تلعب بالنار
قراءة المشهد تؤكد أن النظام المصرى يعي تماما كل ما سبق، إلا أنه فضل بالموافقة على الجلوس للمفاوضات من جديد، أن يسجل موقفا جديدا أمام العالم، مثلما نحج من قبل في تسجيل موقف بإشراك "الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولى" كشريكين محايدين في مفاوضات "واشنطن" التي انتهت بصياغة اتفاق تنصلت إثيوبيا من التوقيع عليه علنا أمام العالم، ثم عاد وسجل موقفا آخر، من خلال الشكوى التى تقدم بها أبريل الماضى إلى مجلس الأمن، حتى تكون المواقف والمسئوليات واضحة أمام الجميع، في حالة لجأوا إلى خيارات أكثر قوة.
يقيني أن النظام السياسى الحالى فى مصر، يضع نصب عينيه "التاريخ السيئ للمفاوضات" التى تعامل "الإثيوبيون" خلالها بكل جحود ومراوغة مع "الدبلوماسية الهادئة" التى اتبعها المصريون، بدءا من إرغام حكومة "عصام شرف" على القبول والإقرار -عكس الواقع- بأن السد "تحت الإنشاء" في الوقت الذي كان فيه مجرد "حبرا على ورق" في مقابل القبول بتشكيل لجنة دولية لتقييم "الدراسات الإثيوبية" للسد، تكون نتائجها "استشارية" وغير ملزمة للجانب الإثيوبى.
اقرأ أيضا: التاريخ الأسود لمفاوضات "سد الكارثة"
وما تبعها من إهانة للنظام في عهد الإخوان، ببدء "الإثيوبيين" في تغيير مجرى النيل الأزرق، بعد دقائق معدودة من إقلاع طائرة الرئيس "محمد مرسي" من مطار أديس أبابا، بعد مشاركته في القمة الأفريقية، ولقاء رئيس الوزراء الإثيوبى.
ثم خداع حكومة "هشام قنديل" وإقناعها بإخفاء النتائج الكارثية التي خرجت بها اللجنة الدولية حول "الدراسات الإثيوبية" للسد، على الرغم من تأكيدها على ضعف وتدني مستوى الدراسات، والتحذير من تأثراتها الكارثية على كل من مصر والسودان في حالة تطبيقها.
ثم الضغط على حكومة الدكتور "حازم الببلاوي" وإرغامها على القبول باستبعاد دراسات "السلامة الإنشائية للسد" من الدراسات الاستشارية المطلوبة، مع استبعاد كافة الخبراء الأجانب من اللجنة الثلاثية.
اقرأ أيضا: مصير مفاوضات "سد الكارثة"
كما أن النظام المصرى الحالى يعى تماما، أنه كان كريما للغاية مع "إثيوبيا" عندما وقع في مارس 2015 على "إعلان المبادئ" ومنحهم موافقة على بناء السد، دون أن يضمن فى الإعلان حق مصر في الحصول على حصتها الكاملة من المياه، أو ربط الموافقة بإقرار المكاتب الاستشارية بألا تكون هناك أية أضرار مستقبلية على مصر، وهو ما لم تقدره "أديس أبابا".
يقيني، أن النظام السياسيى المصرى الحالى قد "فاض به الكيل" من أسلوب المراوغة ومحاولات كسب الوقت الذى تعاملت به "إثيوبيا" على مدار 8 سنوات، حتى انتهت من تشيد نحو 80% من السد، ولم يعد يفصلها عن موعد الملء سوى أيام معدودة، ورغم ذلك ما زالت تستخدم ذات الأسلوب.
وهو ما جعل النظام المصرى فى موقف لا يمتلك فيه حتى رفاهية ضياع المزيد من الوقت، أو القبول بـ "لعنة التاريخ" واضطر إلى وضع الأمر برمته أمام "مجلس الأمن القومى المصرى" الذى قرر اعتبار تلك المفاوضات والأيام القليلة القادمة "فرصة أخيرة" قبل أن يتخذ قرارا بفتح الموقف من "سد النهضة" على كل الخيارات.. والله المستعان.